صابرين الحرازين
وسط قطاع غزة، الذي يشهد حرب إبادة مستمرة منذ أكثر من 410 أيام، حيث صراع البقاء والبحث عن المأكل والمشرب بصعوبة بالغة، يجلس الدكتور محمود عساف أمام خيمته المتهالكة على كرسي وطاولة بلاستيكية بالكاد حصل عليهما. استقر به الحال في جنوب قطاع غزة، وتحديداً في منطقة الزوايدة، بعد عدة مرات من النزوح.
يقيم الدكتور مأتماً في قلبه على مكتبته التي أفنى عمره في اختيار كتبها بعناية فائقة وترتيبها بحكمة ومعرفة، بعيداً عن العشوائية. لكن الحرب والنزوح أبعداه عنها، لتُترك هناك في شمال القطاع شاهدة على مسيرة عمر مضى في البحث عن العلم ونشره. مكتبة تنتظر مصيراً مأساوياً، قد يجعلها وقوداً للنار.
يقول الدكتور محمود عساف، صاحب المكتبة الضخمة: "تلقيت اتصالًا من شخص يمتلك فرناً يعرض عليّ شراء ما تبقى من مكتبتي لاستخدامها كوقود للخبز. اشترط أن يكون الدفع عبر تطبيق بنكي، ويبدو أنني سأضطر للموافقة لضيق الحال".
وأضاف، بصوت يملؤه الأسى: "منذ ذلك الاتصال ولساني يردد: ليتني متّ قبل أن أسمع هذا العرض. الكتب التي جمعتها بشغف على مدار سنوات ستنتهي بين ألسنة اللهب. ومع ذلك، لا يبدو أن هناك مفراً من القرار. كم موتاً يريدنا؟ وهذا بالمناسبة هو عنوان كتاب لي رأى النور في ظل الحرب على غزة، إلى جانب 25 كتاباً آخر فقدتهم في صومعتي هناك، ولم أستطع احتضانهم. كل كتاب يروي قصة مغايرة في مجالات متنوعة من الأدب والسياسة والاجتماع".
خلال حديثنا معه، فاجأنا الدكتور عساف بانتهائه من كتابة كتاب جديد بعنوان عمر = صفر. الحديث عن سبب التسمية طويل، إلا أن الكتاب ينضم إلى قائمة أعماله السابقة، التي شملت عناوين مثل: وصايا الحرب الكونية على غزة، حقوق الأسرى، التعليم والتعلم الإلكتروني، تطوير أداء قيادات التعليم، نحن لسنا صخوراً، إفراط لم يكتمل، النخلة تودع أبناءها، عورة حرف، سيف التراب، نقرة واحدة لا تكفي، اقتصاديات التربية، التربية والتنمية، ما وراء التطبيع، صورة الإسلام والعرب في المناهج الإسرائيلية، والقدس في الصراع.
يضيف الدكتور عساف، بصوت بالكاد يخرج: "كانت صومعتي، والآن وجعي وغصتي. عمرها 35 عاماً، وتضم 30,000 عنوان. آخر تحديث للمكتبة كان قبل الحرب على غزة عام 2023، حيث أضفت 250 كتاباً جديداً من معرض القاهرة الدولي للكتاب. أول كتاب يعتلي أرفف مكتبتي كان إحياء علوم الدين، وهو كتاب أهدته لي والدتي، رحمها الله، لتفوقي في الصف السادس الابتدائي، لإيمانها العميق بأن من لم يقرأ فهو ليس من الأحياء".
يستعرض الدكتور عساف مسيرته العلمية، التي بدأت منذ عام 2005 وحتى اليوم. أشرف على مناقشة أكثر من 30 رسالة ماجستير ودكتوراه، وما زال يساعد الطلبة في كتابة أبحاثهم وتحكيمها رغم كل الصعوبات. نشر أكثر من 80 بحثاً محكماً، وشارك في 40 مؤتمراً علمياً، واعتمد كخبير تربوي في العديد من الإذاعات والفضائيات المحلية والعربية.
ورغم ما يعيشه من صعوبات معيشية بسبب الحرب، حصل على المرتبة الثالثة ضمن قائمة أعلى 10 مؤلفين عرب تأثيراً في مجال العلوم والتربية.
لم تكن كتبه حبيسة أرفف مكتبته، بل امتدت إلى معارض الكتب الدولية مثل معرض القاهرة الدولي ومعرض الجزائر الدولي للكتاب. تُرجم بعضها إلى لغات عدة، منها الفرنسية والإسبانية. يأمل الدكتور عساف أن تنتهي الحرب ليعود إلى صومعته ويكمل أبحاثه وكتبه ومؤتمراته.
هذه القصة ليست مجرد مأساة شخصية لكاتب اضطر للتضحية بحلمه، بل شهادة حية على واقع غزة، حيث تُحرق الكتب، الرموز الثقافية، والمعالم الأثرية. الحرب تسعى لطمس القضية وتجهيل الشعب، بينما يحاول الإنسان إيجاد طرق للبقاء وسط أعظم الخسائر وأقساها.
الثقافة تحت النار: إرث مهدد بالزوال
لم تكن مكتبة الدكتور محمود عساف المثال الوحيد على المعاناة الثقافية في غزة، بل هي جزء من مأساة أكبر تطال الموروث الثقافي للقطاع المحاصر. في ظل الحرب المستمرة، لم تسلم المكتبات العامة والخاصة، ولا المؤسسات الثقافية والفنية، من الدمار أو الإغلاق. أصبح الوصول إلى الكتب والمصادر التعليمية رفاهية يصعب تحقيقها في وقت باتت فيه الأولوية للبقاء على قيد الحياة.
المراكز الثقافية التي كانت تنظم الأمسيات الأدبية وورش العمل الإبداعية تم تدمير جزء كبير منها، وتحولت أحياناً إلى مراكز إيواء للنازحين.
وتُظهر الحرب وجهها القاسي في محاولتها طمس الهوية الثقافية للشعب الفلسطيني. الكتب والمخطوطات والمكتبات، التي تمثل ذاكرة الجماعة وإرثها الحضاري، أصبحت هدفاً ثانوياً للنيران أو وقوداً لتدفئة العائلات. هذا التهديد لا يمحو ذكريات الأفراد فحسب، بل يسعى إلى كسر الروح الجماعية لشعب بأكمله، وإخماد صوته الذي طالما صدح بالحق والحرية.
رغم كل ذلك، يصر المثقفون في غزة على البقاء، مستمرين في الكتابة والتوثيق بوسائل بسيطة، لتبقى غزة شاهدة على قوة الكلمة في وجه الظلم والنسيان.