ملاحظة: الأسماء الواردة في التقرير مستعارة لحساسة القضية، لكنها معروفة لدى إدارة تحرير "البوابة 24"
غزة/ أحلام عبد القادر- البوابة 24
قرب نار الحطب التي أوقدتها للتدفئة أمام باب خيمتها، جلست أم لؤي. بدأت حديثها بصوتٍ خفيض خشية أن يسمعها أحد في خيمة سلفها (شقيق زوجها) المجاورة، واكتفت بالإشارة إلى مكانها الذي لا يبعد إلا أمتارًا معدودة.
قالت: "علاقتي بهم كانت ممتازة، لكن بعد تجربة النزوح والسكن المشترك، لم تعد مثل الماضي أبدًا".
بعد إعلان دولة الاحتلال الإسرائيلية حربها على قطاع غزة، في السابع من أكتوبر/ تشرين أول من العام الماضي، حُشرت الكتلة البشرية الأكبر من السكان في مساحةٍ جغرافيةٍ ضيقة (نحو مليون و700 ألف إنسان توزّعوا في مناطق جنوبي وادي غزة).
عائلاتٌ ممتدّة تشاركت العيش والمنامة في مساحاتٍ صغيرة ضاقت بهم، وحمّلتهم ثقل حياةٍ لم يألفوها تحت وطأة الخوف والجوع، وأجبرتهم على التعامل مع شخصياتٍ لا تشبههم، وعرّضتهم لصدمات الاختلاف الثقافي والاجتماعي والتعليمي والتربوي، "بل حولتهم لمعلبات بشرية انفجرت لتنفّس قهرها، أو حتى.. لتظهر بوجهها الحقيقي الذي لطالما جمّلتهُ أوقات الرخاء" وفق وصف أم لؤي.
منذ أن تزوجت "أم لؤي" حرصت على علاقات طيبة مع "سلفاتها" وعائلة زوجها، "لكن بعد الإقامة ببيتٍ واحد، ثم في خيامٍ متلاصقة، اختلف الحال، ولم يعد كما كان أبدًا" تستدرك.
ضيف ثقيل
كانت تلك المرأة الأربعينية تعيش حياةً بسيطةً هانِئة مع زوجها وأطفالها الثلاثة بمدينة رفح جنوبي القطاع، "ولأنه منزل العائلة، لجأ إليه شقيق زوجي برفقة زوجته وأبنائهما السبعة وغالبيتهم من البالغين".
تتابع: "منذ اللحظة الأولى افتقدت خصوصيتي وحريتي في المنزل".
هذا الأمر لم يمثل مشكلة لأم لؤي في بداية الأمر، فقد اعتادت قبيل الحرب على زيارتهم ليومين أو ثلاثة فقط خلال الأعياد. "لكن الحرب طالت، عشنا معًا سبعة أشهر قبل أن نضطر جميعًا للنزوح من رفح على وقع اجتياحها بريًا في مايو/ أيار 2024م" تخبرنا.
وتتابع: "كانت إقامتهم لدينا كتلة لهب. مشكلات متكررة بيني وبين زوجي على أتفه الأمور، وزيادة في الحساسية تجاه الكلمات والتصرفات، حتى أننا افتقدنا خصوصيتنا داخل غرفة نومنا كون المنزل صغير، والحركة فيه لا تهدأ".
في الفترة الأولى، لم يدرك أبو لؤي حجم الضغط المادي الهائل، وكان يعامل شقيقه وعائلته كضيوف. يتكفّل بكل احتياجاتهم، ويتحمل مع زوجته الجزء الأكبر من أعباء المنزل والمصاريف.
تكمل السيدة بحنق: "أنا موظفة في حكومة غزة، وراتبي محدود بالكاد أتحصل عليه كل شهرين، وزوجي سائق أجرة فقد عمله مع اندلاع الحرب، والعبء علينا كبير جدًا"، موضحةً أنها عندما حاولت بمنتهى التفهّم وضع حد للأمر، والانفصال في المصروف، استاء منها الجميع، حتى زوجها رغم اقتناعه بأن ما تفعله صحيح.
تعقب: "صحيح أن العلاقة لم تعد سلسلة مثل الأول، لكن أشكر نفسي لأن سلفتي عرفت حدودها ومسؤولياتها".
"جبروت" حماة!
تزوّجت منيرة (41 عامًا) قبل 19 عامًا، وسكنت مع زوجها في مدينة غزة، وكانت العلاقة بأهله سكان مدينة خانيونس جنوبي القطاع ممتازة "حتى اندلعت الحرب" تقول.
أُجبرت منيرة على النزوح إلى بيتهم، ثم الانتقال معهم إلى منطقة المواصي بعد اجتياح المدينة، ليس معهم وحسب، بل مع خمسة من أشقائه المتزوجين وعائلاتهم.
تضيف: "أصرّت حماتي على إقامة خيمتين كبيرتين، واحدة للرجال والأطفال، والثانية للنساء، وفرضَت إجراءات صارمة، وحرمتنا من التواصل الطبيعي مع أزواجنا وأطفالنا".
وتردف بانفعال: "كنت أتساءل عن سبب ذلك التحكم اللا مبرر في ظل هذه الظروف المأساوية. طلبتُ إقامة خيمة خاصة لي ولزوجي وأطفالي لكنها رفضت، ومن هنا اشتعلت المشكلات".
غضبت الحماة بشدة، وطلبت من منيرة ومن أي كنّة ترفض الواقع الذي فرضته مغادرة المكان فورًا. تخبرنا منيرة: "بالفعل غادرتُ مع أبنائي إلى البيت الذي نزحت فيه عائلتي رغم ضيق المكان، ثم لحق بي زوجي فيما بعد، وهذا زاد من حنقها، حتى أنها قبل إغلاق معبر رفح سافرت نجاةً بروحها دون أن تخبرنا أو تودعنا حتى".
تشعر السيدة الأربعينية بالذهول مما وصفته بـ"جبروت" هذه الأم، فهي تقاطعهم منذ ذلك الحين، ولا تسأل عن أخبارهم أبدًا، "ولا ندري لمّا تنتهي الحرب، كيف يمكن أن تقابلنا أو ننسى ما فعلته بنا".
صغائر عقّدتها الحرب
وبسبب الخلاف على استخدام غاز الطهي اضطر أبو عائد وأسرته إلى مغادرة منزل ابن خالته. "صديق العُمر" القاطن في مدينة رفح، حيث كانوا يقيمون في منزله منذ نزوحهم عن مدينة غزة في الشهر الثاني لاندلاع الحرب.
يقول أبو عائد لـ "البوابة 24"، "تركني أخرج من منزله مع زوجتي وبناتي الأربعة، وهو يعلم أنني لا أعرف سواه في رفح (..) لقد خسرني للأبد".
وجد أبو عائد نفسه هائمًا في شوارع المدينة مع أسرته على غير هدى، دون وجهةٍ أو مكانٍ يأوي إليه، وبدافعٍ من الغضب الشديد، قال: "والله ما أنا ضايل بكل رفح"، ثم توجه إلى منطقة قريبة من شاطئ البحر في منطقة القرارة، وأقام خيمة بنفسه".
يضيف: "عاهدت نفسي لحظتها: إما بموت هان أو بنرجع على غزة، ولا يمكن أروح عند حدا".
وحكاية أبو عائد ليست استثنائية لأقارب وأصدقاء فرقت بينهم الحرب، بسبب خلافات كانت وليدة النزوح في منازل وخيام واحدة، وواحدة منها تخص "علا" الشقيقة الوحيدة في أسرة متماسكة، يعيش غالبية أشقاؤها في الخارج، باستثناء أحمد، الذي أقامت وأسرتها معه في خيمةٍ واحدة بمدينة دير البلح وسط القطاع.
تثني علا كثيرًا على علاقتها بأحمد الذي يصغرها بثلاثة أعوام، قبيل الحرب، وتقول: "طول عمره كان حنون"، ثم تستدرك بعد دقيقة صمت، وارتجافة: "صُدمت عندما شتمني وكاد يضربني لأول مرة في حياته".
تلقي علا باللوم في تغير شقيقها على زوجته، ولديها شبه يقين -كما تقول- بأنها تحرضه عليها، ولأسباب تافهة ناجمة عن مشكلات بين الأطفال.
أجبرت علا على الاستدانة، واشترت خيمة لتجنب الخلافات التي باتت تؤرقها يوميًا، "لقد كسرت الحرب في دواخلنا مشاعر يصعب إصلاحها"، موضحةً أن علاقتها ما تزال متوترة بشقيقها وزوجته.
بريق أمل
وفي الوقت الذي كانت فيه المشكلات الأسرية، تبقى حبيسة جدران بيوت أصحابها، لم يعد لأصحابها بيوت، وانكشفت العورة، وصارت أصغر مشكلة حديث سكّان البقعة المحيطة بأطرافها كلهم.
سكان الصفوف المتجاورة في مراكز الإيواء، وجيران الخيام الذين تفصلهم عن كونهم في مجلس واحد قطع قماش لا تحجب صوتًا أو كلمة، ونازحوا البيوت التي نجَت من القصف وغصّت بهم المساحة. مجتمعات باتت مفتوحة على بعضها، لا يُكتم فيها سرٌ ولا يُحكى أصلًا.
ووسط بحر المشكلات في ظل هذه الظروف اللا إنسانية، التي يعيشها سكان غزة منذ السابع من أكتوبر 2023م، تبرز حكايةً ملهمةً لسهاد أبو عمشة (37 عامًا).
سهاد إحدى زوجتين لزوجها، ولديها (11 ابنا وابنة)، وتقيم مع "ضرتها" وأبنائها في غرفة واحدة داخل مدرسة (مركز إيواء) بمدينة خان يونس جنوبي القطاع.
نزحت مع أسرتها من بلدة بيت حانون شمالي القطاع، وخاضت تجربة النزوح مرارًا. ولا نقصد بكلمة "أسرتها" هنا زوجها وأطفالها وحسب "فقد كنا نعيش 62 فردًا من أشقاء زوجي، وزوجاتهم، وأبنائهم، في غرفة واحدة بمدرسة برفح، قبل نزوحنا الأخير منها لخان يونس" تقول.
تشير ناحية ضرّتها، وتبتسم، ثم تكمل: "هذه الحرب كاشفة. وقد عاهدت نفسي أن لا تنتهي وقد حمل في قلبه أحد مني ضغينة. إيدي على إيدها في كل إشي، علشان نساعد في تلبية احتياجات هالعيلة الكبيرة".
وفيما يعمل الزوج وأشقاؤه في بيع الفلافل، تقف سهاد وضرتها على الجهة المقابلة تعدان "خبز الصاج" على نار الحطب؛ لبيعه للمارة أو استخدامه في "ساندوتشات الفلافل"، في ظل أزمة خبز وطحين حادة، ومجاعة تعصف بزهاء مليون و700 ألف فلسطيني في جنوبي القطاع، غالبيتهم من النازحين".
دواع خطيرة
ووفقًا للأخصائية النفسية والمجتمعية عبير العطاونة، فالمرأة هي الضحية الأكبر للمشكلات وليدة الحرب والنزوح، التي تسببت في "التفكك الأسري" وبعضها وصل حد الطلاق.
وتقول: "تداعيات الحرب والنزوح وضعت ضغوطًا هائلة على كاهل المرأة، التي وجدت نفسها مطالبة بأعباء إضافية لم تعتد عليها، وكذلك واجه الرجل ضغوطًا تتعلق بفقدان مصادر الرزق وغلاء المعيشة، وترك ذلك أثره السلبي على الاستقرار الأسري والعائلي"، منبهةً إلى وقائع كثيرة، اشتكت فيها النساء أيضًا من العنف الأسري.
وترى العطاونة، أن انتهاء هذه المشكلات مرتبط بانتهاء الحرب، لكن آثارها لن تزول بزوالها، "وهنا لا بد من تنظيم جلسات تفريغ ودعم نفسي سريعة، وإلا فإن آثار هذه المشكلات ستدوم طويلًا، لا سيما المشاعر المرتبطة بـ "الكره والأنانية" التي تولدت من "الاقتراب الاضطراري" الذي فرضته الحرب، وأجبر الناس على الإقامة معًا لفترات طويلة في منازل وخيام، من دون استعداد أو مقومات.
البوابة 24