بقلم عائد زقوت
في ظل الاتصالات المكوكية بين الأطراف المعنية لتحديد ملامح التسوية السياسية، ومهام قوة الاستقرار المزمع تشكيلها، ضمن خطة السلام الأميركية لإنهاء حرب غزة، أعلنت إسرائيل عبر تصريح وزير حربها كاتس اعتبار الحدود مع مصر منطقة أمنية مغلقة. يُعد هذا الإعلان أحد أبرز انعكاسات هجوم السابع من أكتوبر 2023 حيث أعادت إسرائيل النظر في جميع مفاهيمها الأمنية، بما في ذلك حدودها مع مصر التي كانت لعقود نموذجًا للتفاهم الأمني والاستقرار الحدودي، وعُرفت بـ"الجبهة الهادئة" إلا أنها تحوّلت في نظر المؤسسة العسكرية الإسرائيلية إلى منطقة خطر كامنة. لم يكن الإعلان مجرد تصريح عابر، بل خطوة تُمزق نسيجًا من التفاهمات استغرقت عقودًا من الدبلوماسية الهادئة والتنسيق الأمني الدقيق. فالقرار يتيح من الناحية العسكرية بتكثيف الانتشار العسكري الإسرائيلي على طول الحدود، وتفعيل أنظمة مراقبة جديدة ومتقدمة تشمل الطائرات المُسيّرة، والرادارات، ووحدات استطلاع، فضلًا عن إمكان تنفيذ عمليات "المطاردة الساخنة" أو إطلاق النار داخل المنطقة الأمنية المغلقة. هذه الإجراءات، إنْ لم تكن منسقة مسبقًا مع القاهرة، تُعيد عمليًا إعادة تعريف للحدود الآمنة بين بلدين يرتبطان باتفاق سلام يحكمه بروتوكول أمني دقيق، وهو ما يعكس تحوّلًا استراتيجيًا في العلاقات الثنائية، من الثقة إلى الشك، في سياق تفاعلات ما بعد حرب غزة. اللافت في التصريح أنه لم يقتصر على محور فلادلفي، بل شمل الحدود بأكملها من معبر كرم أبو سالم شمالًا حتى مدينة إيلات جنوبًا، بطول يتخطى مئتي كيلومتر. على الرغم أنّ الشواهد التاريخية أثبتت قدرة الدولة المصرية على بسط سيادتها وسيطرتها الأمنية على سيناء، من حادثة ضبط الأسلحة 2004، مرورًا بإعادة انتشار الجيش في سيناء بعد 2014، التي عززت السيطرة المصرية على الحدود، فإنّ ذلك لم يمنع إسرائيل من إعلانها الأخير الذي أعاد تصنيف الحدود "كمنطقة أمنية مغلقة"؛ حيث نبعت خلفية القرار الإسرائيلي من: أولًا: الرغبة في فرض ترتيبات أمنية أحادية، تمنح إسرائيل اليد العليا في أي ترتيبات مستقبلية تخص غزة وما بعدها. ثانيًا: توجيه رسالة سياسية بأنّها مستعدة لاتخاذ إجراءات أحادية متى رأت أنّ أمنها مهدد، ولو على حساب الأعراف الدبلوماسية. ثالثًا: محاولة توسيع نموذج الرقابة المشتركة المزمع تطبيقه في محور فلادلفي، ليشمل كامل الحدود من معبر كرم أبو سالم حتى إيلات، عبر المراقبة الإلكترونية والدوريات بإشراف أميركي. هذا التحوّل يعكس فقدان الثقة التقليدية بين الطرفين المصري والإسرائيلي، ورغبة الأخيرة في تغيير البروتوكول الأمني الملحق باتفاقية السلام، الذي يحدد بدقة طبيعة ونطاق الوجود العسكري على جانبي الحدود، ما قد يؤدي إلى واقع أمني جديد يمنح إسرائيل سيطرة أوسع على الترتيبات الميدانية لما بعد غزة. إنّ هذا التحوّل يمس جوهر اتفاق السلام ذاته، ويمس أساس العلاقات الدولية كما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة؛ ويضع القاهرة أمام اختبار سيادي وسياسي بالغ الحساسية. في المقابل تعمل مصر على مواجهة هذه التحديات عبر: أولًا: تأكيد سيادتها الكاملة على سيناء، وتستخدم التفتيش الميداني وعمليات إعادة الانتشار العسكري كرسائل استراتيجية ودبلوماسية رافضة لأي وصاية أو رقابة خارجية. ثانيًا: تعزيز القدرات المصرية على الأرض: لضمان السيطرة الميدانية على سيناء ومنع أي اختراق أمني. ثالثًا: القدرة على ضبط الحدود وفق آليات وطنية دون الحاجة لإشراف خارجي. رابعًا: التحذير من أنّ استمرار السياسات الأحادية قد يدفع القاهرة إلى مراجعة قواعد التنسيق الأمني القائمة. بناءً على ما سبق فإنّ مصر اختارت الرد الهادئ لتفادي التصعيد، لكنها في الوقت نفسه بعثت برسالة ضمنية بأن سيادتها ليست موضوعًا للنقاش. التصعيد الحدودي ليس حدثًا معزولًا عن المشهد الإقليمي الأوسع، بل جزء من معركة أكبر حوْل النظام الإقليمي ومستقبل غزة، وعليه تتباين مواقف الأطراف الفاعلة على النحو الآتي: - إسرائيل تسعى إلى صياغة واقع أمني جديد يكرّس سيطرتها على ترتيبات ما بعد الحرب، ويضمن فصل غزة عن العمق العربي. - مصر ترفض أي وجود أمني دولي أو إسرائيلي على حدودها، وتصرّ على دورها المحوري في إعادة ترتيب الوضع الفلسطيني؛ كما أن غيابها عن اجتماع إسطنبول العربي الإسلامي الأخير لم يكن صدفة؛ بل جاء كإشارة سياسية لرفض أي محاولات لتجاوز دورها أو إشراك أطراف منافسة في إدارة ملف غزة؛ وتؤكد هذه المقاربة المصرية الحذرة رفضها لإعادة إنتاج الوضع الفلسطيني بمعزل عن السلطة الوطنية، أوإنتاج نسخة جديدة "معدّلة" من حركة حماس تتولى حكم غزة لاحقًا تحت وصاية "مجلس السلام" المزمع تشكيله برعاية واشنطن؛ مما سيؤدي إلى تقسيم القضية الفلسطينية لملفات فرعية، وهو ما تعتبره مصر تهديدًا مباشرًا لاستراتيجيتها القائمة على حل الدولتين وصيانة الأمن القومي في سيناء. - الولايات المتحدة تحاول التوفيق بين الحليفين، خشية أن يؤدي التوتر إلى تفكك منظومة "السلام الإقليمي" التي تستند إليها استراتيجيتها في الشرق الأوسط. - السعودية: موقفها يؤثر على مسار التطبيع العربي الإسرائيلي، فهي تراقب التطورات عن كثب قبل أي خطوات سياسية جديدة. - الاتحاد الأوروبي، روسيا، الصين: يتابعون الوضع بقلق، خصوصًا تأثيره على استقرار المنطقة، وامدادات الطاقة، وعلاقاتهم مع مصر وإسرائيل، وقد يكون لهم دور محتمل في الوساطة أو الضغط الدولي. المشهد المتشابك في إقليم المتوسط وفي ظل سعي الأطراف لإعادة هندسة الأدوار الإقليمية، يمكن قراءة بعضًا من التصورات المحتملة: 1. تصعيد محدود: استمرار إسرائيل في الإجراءات الأحادية مع ردود فعل مصرية محدودة، مع احتمالية اشتباكات صغيرة على الحدود. 2. تجميد التعاون الأمني: تعليق جزئي أو كامل للتنسيق الأمني بين البلدين، ما يؤدي إلى حالة توتر مستدامة على المدى المتوسط. 3. وساطة دولية: تدخل الأمم المتحدة أو أطراف إقليمية للوساطة، بهدف إعادة آليات التنسيق وضبط الحدود، وربما فرض ترتيبات مؤقتة لتجنب التصعيد. 4. العودة للتنسيق المشترك: الخيار الأكثر استقرارًا، يحمي المصالح المصرية ويقلل من فرص التصعيد. 5.الاستفادة من الضغوط الإقليمية والدولية: لإجبار إسرائيل على احترام البروتوكولات القانونية القائمة، مع الحفاظ على مصالح القاهرة. 6. اتجاه إعادة التموضع الإقليمي: وهو التصور الأبعد لكنه الأخطر، حيث ستؤدي أي ترتيبات سياسية أو أمنية أميركية إسرائيلية بمعزل عن القاهرة، تستهدف سيادتها في سيناء، ودورها في الملف الفلسطيني، والأمن الإقليمي إلى تحوّل في التموضع المصري نحو شراكات جديدة، ضمن رؤية أوسع لإعادة التوازن الإقليمي بعد الحرب. اتساقًا مع ما سبق تبقى قدرة مصر على إدارة هذا التوازن بين الردع والحكمة هي العامل الحاسم في تحديد أيٍ من هذه التصورات سيتحقق فعليًا. في نهاية المطاف تُظهر التطورات الأخيرة أنّ العلاقات "المصرية الإسرائيلية" تمر بمرحلة إعادة اختبار لمعادلة الأمن والسلام، يمكن وصفها بـ"السلام البارد" أو حتى "المواجهة الباردة"؛ في ظل واقع إقليمي متغير تحاول فيه كل الأطراف تثبيت موقعها في مرحلة ما بعد حرب غزة. ومع تمسك القاهرة بسياسة التوازن وضبط التوتر وحماية مصالحها، فإنّ استمرار السياسة الإسرائيلية الأحادية، قد يدفعها إلى إعادة مقاربتها الإقليمية، دفاعًا عن سيادتها ودورها المركزي في القضية الفلسطينية.
