"نرى الذعر ولا نسمع شيئًا".. "الصُمُّ" بغزة.. الموت في "مشهدٍ صامت"!

حرب غزة وتأثيرها على الصم
حرب غزة وتأثيرها على الصم

غزة/ البوابة 24- رشا أبو جلال

في زاوية خيمة مهترئة، داخل أحد مخيمات النزوح بدير البلح، وسط قطاع غزة، يحمل سامر مقبل بين يديه ورقةً وقلمًا، ويحاول أن يرسم انفجارًا شاهده قبل عدة أيام، بعد غارةٍ إسرائيلية استهدفت مكانًا قريبًا.

بالنسبة لسامر (وهو من ذوي الإعاقة السمعية) فالحرب ليست سوى "لوحة صامتة"، مليئة بالألوان المتداخلة، والحركة المتسارعة، لكنها خالية تمامًا من الأصوات.

سامر (25 عامًا) لا يسمع دوي القنابل التي تهز الأرض من حوله، لكنه يراها تتفجر أمام عينيه، كمشهدٍ سينمائي مرعب. يرى الشظايا تتطاير، والناس يصرخون ويركضون، لكنه لا يفهم كلماتهم أو ما يجري.

يقول شقيقه الأصغر عبد الحميد لـ"بوابة 24": "عندما يحدث قصف قريب، نمسك بيده ونركض دون أن نتمكن من تفسير ما يحدث. كل ما يعرفه أن عليه الهرب للنجاة بحياته".

يتحدث عبد الحميد مع سامر بلغة الإشارة، ثم يخبرنا: "النزوح بالنسبة لسامر تجربة مرهقة، ليس فقط بسبب فقدان منزلنا الذي دُمر في مدينة غزة، بل لأنه يجد صعوبة في التواصل مع الآخرين في المخيم".

معظم من حوله لا يجيدون لغة الإشارة، مما يزيد من إحساسه بالعزلة. أحيانًا يجلس وحيدًا في الظلام، ويحاول قراءة ملامح الوجوه؛ ليكتشف ما إذا كانوا يتحدثون عن خطر قادم.

لكن الخوف بالنسبة لسامر لم يعد فقط في ما يراه، بل في ما لا يستطيع رؤيته. القصف الليلي يمثل له الكابوس الأكبر، حيث لا يستطيع رؤية أي شيء سوى الوميض المفاجئ في السماء. "كتب سامر في دفتر يومياته الذي يمتلئ برسوم تعبر عن ألم الصمت: كيف أهرب من شيء لا أراه ولا أسمعه؟" يضيف شقيقه.

يصف عبد الحميد موقفًا أثّر بسامر كثيرًا، فيقول: "كنا نحتمي تحت شجرة عندما اقترب صوت طائرة بدون طيار. صرختُ وطلبتُ من سامر أن يركض، لكنه لم يفهم. بقي جالسًا حتى جررته بقوة. هذا الموقف لا يزال يلاحقني".

سامر يرى الخوف في عيون الناس، يلمسه في حركاتهم المتسارعة، لكنه لا يستطيع تفسيره بشكل كامل. بالنسبة له، الحرب ليست فقط عدوًا يمطرهم بالقنابل، بل أيضًا حاجزًا يصعب اختراقه.

في لحظة هدوء نادرة، يقول سامر بلغة الإشارة: "أحلم أن أعيش في عالم أستطيع أن أفهمه، أن أسمع ما يحدث حولي ولو للحظة واحدة، ليس لأني أحب الأصوات، بل لأني أريد أن أفهم الخوف الذي يسكن عيون الجميع".

سامر، بصمته وصموده، يقدم صورة مؤلمة عن معاناة ذوي الإعاقة السمعية في الحروب. إنهم يواجهون ليس فقط القنابل والخوف، بل أيضًا عزلةً مضاعفة في عالم لا يمنحهم سوى المزيد من الصمت.

لغة الصمت في خيمة

في خيمةٍ ثانية على أطراف مدينة خان يونس، جنوبي قطاع غزة، تجلس أم ندى بجوار ابنتها الوحيدة (12 عامًا)، تُمسك بيديها أغلب الوقت في محاولةٍ لطمأنتها، وتحدثها بما تعيه من لغة الإشارة، عن ما يحدث حولها.

ندى، طفلة ولدت بإعاقة سمعية، لا تفهم لماذا تركت منزلها وألعابها وكتبها، ولا تدرك معنى القصف والانفجارات التي تراها فقط في السماء كضوءٍ خاطفٍ ومخيف.

file-MpSfjEfJXAVGZhkQrHFVTf.webp
 

تحكي الأم عن اللحظة التي اضطروا فيها للنزوح من منزلهم في مدينة غزة. تقول لـ"بوابة 24": "عندما بدأ القصف بالقرب منا، كنت أحاول أن أشرح لندى بلغة الإشارة أن علينا المغادرة فورًا. لم تفهم ما أعنيه في البداية، فقط رأت الفزع في عيوني وارتجاف يدي".

خلال الرحلة الطويلة إلى خان يونس، كانت الأم تواجه صعوبة مضاعفة. كان عليها أن تحمي طفلتها من الخوف الذي يحيط بهما، وفي الوقت نفسه، أن تشرح لها ما يجري. "ندى لا تسمع أصوات الانفجارات أو الصرخات، لكنها ترى الناس يركضون وترى الخوف في وجوههم. كانت تسألني بلغة الإشارة: ماذا يحدث؟ لماذا نركض؟".

لقد نزحت عائلة ندى ست مرات متتالية؛ بحثًا عن الأمان، وهربًا من الموت، ولكن الوصول إلى خان يونس لم يكن نهاية المعاناة.

في المخيم، حيث يكتظ المكان بالأصوات والصراخ، تجد ندى نفسها في عزلة تامة. لا أحد هنا يتحدث لغة الإشارة، والأم وحدها هي القادرة على التواصل معها.

تقول الأم: "عندما تطلب شيئًا، أجد نفسي أترجم احتياجاتها للعالم من حولنا. أحيانًا ينظر الناس إلي باستغراب عندما أتحدث بالإشارة، وكأننا مخلوقات غريبة في هذا العالم".

أكثر اللحظات صعوبة بالنسبة للأم هي الليل. "ندى تخاف من الظلام. في بيتنا كانت تنام في حضني، أما هنا في الخيمة، كل شيء جديد وغريب عليها. أشرح لها أن الضجيج خارج الخيمة ليس خطرًا، وأننا بأمان، لكنها لا تفهم، كيف يمكننا أن نكون بأمان وسط هذا الفزع".

تحكي الأم عن لحظة مؤلمة: "في إحدى الليالي، اقترب القصف منا. شعرتُ بالأرض تهتز تحتنا، وبدأ الناس يصرخون ويهربون. حاولتُ أن أخبر ندى بلغة الإشارة أن علينا أن نختبئ، لكنها كانت مذهولة، جالسة بلا حراك، تنظر لي بخوف كبير. لم أستطع سوى حملها والركض بها".

بالرغم من كل شيء، تحاول الأم أن تبقي على جزء من الروتين الذي كانتا تتبعانه قبل الحرب، تقول: "ندى تحب الرسم، لذلك جمعت لها بعض الأوراق والأقلام من المساعدات التي وصلت للمخيم. أطلب منها أن ترسم ما تشعر به، وأحيانًا أرسم معها لأفهم ما يدور في ذهنها".

في لحظة هدوء نادرة وسط ضجيج الخوف، تحرك الأم يديها بلغة الإشارة لتقول لندى: "نحن معًا، لا تخافي". تبتسم ندى ابتسامة صغيرة، لكنها تحمل الكثير من الحزن والخوف.

"أمومة بلا أصوات"

وفي خيمةٍ ثالثة بمخيم نزوحٍ آخر بخان يونس، تجلس عبير محيسن، وهي امرأة تبلغ من العمر 37 عامًا، يحيط بها ستة أطفال، أكبرهم لا يتجاوز 12 عامًا.

محيسن وُلدت بإعاقة سمعية متوارثة، كما ورّثتها لاثنين من أبنائها. لا تسمع أصوات القصف الذي يقترب منهم ليلًا، لكنها ترى انعكاساته في عيون أطفالها.

تقول شقيقتها التي تعيش معها في المخيم لـ"بوابة 24": "عندما تسقط القنابل، يتراكض الجميع، لكن عبير لا تعرف متى يبدأ الخطر. أحيانًا نصرخ لنخبرها، لكننا ندرك أنها لا تسمع، فتضطر إلى مراقبة حركاتنا بعينيها لتفهم أن عليها التحرك".

تواجه محيسن صعوبة كبيرة في حماية أطفالها. في الليالي الحالكة، عندما يقترب القصف، تُمسك بيد أصغرهم وتحاول ضمهم جميعًا إلى صدرها. تقول شقيقتها: "ترتجف يداها وهي تشير إليهم بوجوب الهدوء. في أعماقها، تشعر بالعجز عن توفير الأمان الكامل لهم".

رغم الإعاقة، تصر محيسن على القيام بواجباتها تجاه أطفالها. تجمع الماء والطعام من المساعدات، وتحاول تنظيف الخيمة بما توفر لديها من أدوات، وتجهّز الطعام بصمتٍ يشوبه توتر دائم.

تُعلم أطفالها لغة الإشارة، حتى يتمكنوا من التواصل معها بسهولة، وتخبرهم كيف يتصرفون في حالات الطوارئ إذا لم تستطع حمايتهم.

أكبر التحديات التي تواجهها، هي تلك اللحظات التي لا ترى فيها الخطر. تقول شقيقتها: "عندما تكون مشغولة داخل الخيمة، قد لا تنتبه لاقتراب القصف. يعتمد أطفالها على شد ملابسها أو الإشارة بأيديهم لتنبيهها، لكنها تبقى في حالة دائمة من القلق لأنها تعرف أن الحرب لا تمنح فرصة للجميع".

تقول شقيقتها: "صمتها ليس ضعفًا، بل قوة من نوع آخر. عبير تقاتل كل يوم من أجل أن يشعر أطفالها أن لديهم أمًا قوية، حتى لو لم تسمع أصوات الانفجارات من حولها".

معاناة نفسية واجتماعية

خلال الحروب، يواجه الأشخاص من ذوي الإعاقة السمعية معاناة نفسية واجتماعية مضاعفة مقارنة بغيرهم، كما يوضح د.درداح الشاعر، أستاذ علم النفس الاجتماعي لـ"بوابة 24".

يشرح الشاعر أن فقدان السمع يجعل الشخص يعيش في "صمت مطبق"، داخل عالمٍ مضطرب مليء بالفوضى والصراخ والانفجارات في حالةٍ كحالة غزة. "هم لا يسمعون أصوات القذائف، لكنهم يشعرون بها من خلال اهتزاز الأرض، ورؤية الذعر في عيون من حولهم. هذا يتركهم في حالة دائمة من الارتباك، لأنهم لا يستطيعون توقع الخطر أو فهم ما يحدث بدقة" يقول.

ويضيف: "الصدمة النفسية لدى هذه الفئة تتضاعف بسبب اعتمادها الكبير على الآخرين؛ لإيصال المعلومات أو تفسير الأحداث، مما قد يعزز شعورهم بأنهم عبء على أسرهم والمجتمع المحيط بهم.

يكمل: "يشعرون أحيانًا أنهم غير قادرين على حماية أنفسهم أو اتخاذ قرارات سريعة في أوقات الخطر، مما يسبب لهم إحساسًا بالعجز والإحباط".

يشدد الشاعر على أهمية التعامل المجتمعي الصحيح مع ذوي الإعاقة السمعية في أوقات الحرب، من خلال "التواصل معهم بشكل واضحٍ داعم، مع استخدام لغة الإشارة أو الرسومات لتوضيح الأحداث والخطط"، مضيفًا: "كما يجب على الأسر والمجتمع، أن يظهروا لهم الاحترام والتقدير، وألا يعاملوهم كأفراد عاجزين، بل كجزء من فريق واحد يواجه الخطر معًا".

ويؤكد على ضرورة توعية المحيطين بذوي الإعاقة السمعية حول احتياجاتهم النفسية والاجتماعية، قائلًا: "يجب أن نتعلم تعليم أطفالنا منذ الصغر احترام الفئات الهشة، وفهم أن دعمهم ليس شفقة، بل واجب إنساني يعزز تكافل المجتمع".

ووفقًا لتقديرات منظمة الصحة العالمية، يُعاني حوالي 3% من سكان قطاع غزة من إعاقات سمعية. مع تعداد سكاني يُقدَّر بأكثر من مليوني نسمة، يعني ذلك وجود ما يقرب من 60,000 شخص لديهم إعاقات سمعية في القطاع.

البوابة 24