الحفر الامتصاصية العشوائية.. "طعنة" للمياه الجوفية ومَكرَهة بين خيام النازحين!

الحفر الامتصاصية العشوائية.. "طعنة" للمياه الجوفية ومَكرَهة بين خيام النازحين!
الحفر الامتصاصية العشوائية.. "طعنة" للمياه الجوفية ومَكرَهة بين خيام النازحين!

غزة/ البوابة 24- حلا أبو عيشة:

في مخيم الأمل للنازحين، غربي بلدة القرارة، بمدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، يراقب المواطن محمد الشيخ (51 عامًا) فراشه ليجف. لقد تسببت مياه الأمطار التي انهمرت الليلة الماضية، بطفحٍ كبير في حفر امتصاص مياه الصرف الصحي، التي أنشأها النازحون بين خيامهم في نفس المنطقة منذ شهور.

مئات الحفر العشوائية، حفرت وسط الخيام الممتدة على مرمى النظر. كلها امتلأت بمياه الأمطار، وطفحت بما تحمله من مخلفات لتطال مياهها الملوثة فراش الناس وأدواتهم في ليلةٍ ماطرة.

يقول الشيخ لـ"البوابة 24": "لا أعرف كيف ستسيطر البلديات على هذه الحفر في حال انتهاء الحرب. هذا الأمر خطير للغاية".

ويعتمد قرابة مليون و200 ألف نازح، من مناطق قطاع غزة المختلفة، وشمالها، على حُفر بدائية غير معزولة تتسرب منها المياه، إذ يحفرونها بآلات يدوية، وبعمق يتراوح بين متر ونصف وأربعة أمتار، وتتصل بمرحاض عبر أنبوب بلاستيكي، تغطى بقطعة قماش أو معدن إذا توفر.

حفر جديدة!

وقد اضطر الستيني أحمد سلامة، برفقة أبنائه الشبان، إلى حفر حفرةٍ جديدة قرب خيمة عائلته بمنطقة مواصي خانيونس، جنوبي القطاع، للتخلص من مياه الصرف الصحي، بعد امتلاء الحفرة القديمة، التي استخدموها 6 أشهر، منذ أن نزحوا من مدينة رفح.

ويتخلص عدد كبير من النازحين في منطقة مواصي خانيونس، من مياه الصرف الصحي عبر حفر امتصاصية، سواء كانت خاصة بخيمة الأسرة، أو تخدم عدة خيام. ويؤكد سلامة، أن معظم الموجودين في المنطقة، ردموا الحفر الأولى، وحفروا أخرى بعد امتلائها، "برغم معرفتهم بأنها تضر بالخزان الجوفي وتتسبب في تلويثه"، معلقًا على ذلك بقوله: "لا يملكون خيارًا آخر".

وفي أحد مخيمات النزوح العشوائية بمدينة دير البلح، وسط قطاع غزة، تخبرنا فدوى ياسين وتكنى بـ"أم أحمد" أن زوجها، أحضر برميلًا، ووضعه داخل الحفرة، بعد ثقبه وتوصيله بالمرحاض، لتقليل خطر انهيار الجوانب، "لكن الغالبية العظمى لا تفعل ذلك، بل تكتفي بحفر الحفرة على أعماق قريبة، ثم تردمها وتحفر غيرها كلما امتلأت" تستدرك.

ويقدر عدد الحفر الامتصاصية في منطقة المواصي وحدها، بحوالي 350 ألف حفرة، "وقد تحفر العائلة أكثر من حفرة بعد امتلاء القديمة، ما ينذر بمخاطر أكبر في ظل الاعتماد على الخزان الجوفي بشكل كامل في استخراج المياه من أجل الشرب، والاستخدام المنزلي"، وفق تصريحات صحفية للمهندس سعيد العكلوك رئيس قسم مراقبة المياه والصرف الصحي في وزارة الصحة الفلسطينية.

غالبيتها طفحت!

في مخيم ابن خلدون، قرب شاطئ بلدة القرارة أيضًا، تتحدث أم فارس، عن أن كافة الخيام المحيطة بخيمتها، ملحقة بحفر امتصاصية أنشأها أهلها، وتقول: "تخيلوا أن غالبيتها طفحت، وأغرقت المساحة الضيقة الموجودة بين الخيام"، ملفتةً إلى عدم وجود أي جهة يمكنها المساعدة، "لا على صعيد البلدية، ولا وكالة الغوث ولا أي جهة أخرى، طالما أن الحرب مستمرة".

وتلفت السيدة إلى أن أطفالها، أصيبوا مرارًا بنزلات معوية، نتيجة لهوهم المستمر -الذي لا خيار غيره- بين الأتربة القذرة، القريبة من تجمع الصرف الصحي بين الخيام.

وللحفر الامتصاصية العشوائية، تأثيرات كبيرة، حيث تحتوي مياه المجاري على نسب عالية من مادة "النيتريد"، بالإضافة لإمكانية تشكل معادن ثقيلة تحتاج لمئات السنوات كي تتحلل إذا ما تسربت للمياه والتربة، وفي حال امتصاص النباتات لها، فإنها تتسبب بالتسمم والسرطانات إذا وصلت لجسم الإنسان.

وحسب الدكتورة ناتالي روبرتس، المديرة التنفيذية لمنظمة أطباء بلا حدود في بريطانيا، فإن تدمير مرافق المياه والصرف الصحي أدى إلى "عواقب صحية كارثية على السكان". وقالت: "لقد ارتفعت معدلات الإصابة بالأمراض الناجمة عن الإسهال بشكل كارثي، وفي الحالات الشديدة جدًا، يمكن لهذا المرض أن يقتل الأطفال الصغار والضعفاء".

ووفقًا لأطباء بلا حدود، فإن معدلات الإصابة بالتهاب الكبد A، الموجود في المياه الملوثة، والذي يشكل خطورة خاصة على النساء الحوامل مرتفعة أيضًا في قطاع غزة.

تربة شديدة النفاذ

ويؤكد أ.د.عبد الفتاح عبد ربه، أستاذ العلوم البيئية في الجامعة الإسلامية بغزة، لوسائل إعلام، أن الحرب على قطاع غزة، عمقت من أزمة مياه الصرف الصحي بشكل كبير، "إذ كان السكان يعتمدون على (87) محطة للصرف الصحي تعمل في مختلف أرجاء القطاع: (5) محطات مركزية، و(80) محطة مخصصة لعمليات الضخ، لكن "إسرائيل" دمرت بين 80 و100 كيلو متر طولي من خطوط شبكات نقل مياه الصرف الصحي كليًا وجزئيًا، ودمرت محطات المعالجة المركزية الخمس، وحوالي (45) مضخة دمرت كليًا أو جزئيًا، بينما دمرت أكثر من 5 آلاف متر طولي من شبكات مياه الأمطار والمياه السطحية، بجانب القنوات والمناهل وغيرها" يشرح.

وتعرضت الشبكات المتبقية -حسب د.عبد ربه- للانسداد نتيجة الركام، ما تسبب في طفح مياه الصرف الصحي في الشوارع، وداخل بعض مراكز الإيواء، وسط اضطرار النازحين للحركة من خلالها، ما تسبب في انتشار الأمراض والأوبئة.

وبالعودة إلى العكلوك، رئيس قسم مراقبة المياه والصرف الصحي في وزارة الصحة الفلسطينية، فإنه يعبر عن خشيته من عواقب وصفها بـ"الوخيمة" على الصحة العامة، والنظام البيئي برمته، بسبب تلوث الخزان الجوفي للقطاع ما يهدد بانتشار واسع للأوبئة والأمراض، "نتيجة استخدام النازحين للحفر الامتصاصية، وهو سلوك اضطراري أرغمتهم عليه ظروف الحرب والنزوح في منطقة يقترب الخزان الجوفي فيها من سطح الأرض، بمسافات تتراوح بين ثمانية أمتار وعشرين مترًا حسب الموقع ودرجة الانخفاض".

وأضاف: "تتسم التربة الرملية في المنطقة بكونها شديدة النفاذ، ما يعني وصول أكثر من 10 ملايين لتر من المياه العادمة غير المعالجة للخزان الجوفي، بسبب نفاذها من التربة إلى المياه الجوفية، وتلويثها بشكل يومي، نظرًا لطول فترة وجود النازحين في المنطقة".

وتسهم الحفر الامتصاصية العشوائية، في تسرب مياه الصرف الصحي للخزان الجوفي بشكل سريع من خلال حقن مباشر للفضلات البشرية، ما يسهم في انتشار الأمراض والأوبئة في مياه الخزان الجوفي، ويسهم في انتشار الحشرات والقوارض في المنطقة، ويتسبب في كارثة بيئية.

وقد اضطرت جهات الاختصاص إلى زيادة ضخ مياه الصرف الصحي إلى البحر، أمام عجزها عن التعامل مع الكميات الكبيرة منها، ودون معالجة، حيث تقدر الكميات غير المعالجة التي تصل البحر، بأكثر من 130 ألف متر مكعب يوميًا، ما أحدث مشكلة بيئية حقيقية، خاصة مع لجوء النازحين لشاطئ البحر، وإقامة خيامهم على رمال الشاطئ.

البوابة 24