"عين غزّة فُقِأت.. صورةٌ لم يوقّع عليها "حسن اصليح"!

الشهيد الصحفي حسن اصليح
الشهيد الصحفي حسن اصليح

غزة/ البوابة 24- دعاء شاهين:

هذه المرة وقفت الكاميرا خاشعة، لا تُسجّل، بل تودّع صاحبها. أمام جسده المسجّى في ساحة مستشفى "ناصر"، وقف صحافيون وصحافيات في وداع زميلهم حسن اصليّح.
شدّوا القبضة على هواتفهم ومعدات العمل، وأطلقوا سراح دموعهم المثقلة بوجعٍ أكبر من أن يخبأ في المُقَل. نظروا إلى بعضهم نظرة "مودِّع"، فكل واحد منهم بات يعرف أنه قد يكون "الشهيد" الذي يتلو حسن.

لم يكن رحيل اصليح، بالنسبة لهم مجرد "فقدٍ" عابر لصحافيٍ شُجاع، بات يحفظ العالم توقيعه على صور الضحايا عن ظهر قلب، "كان اغتيالًا متعمدًا للحقيقة التي قاوم من أجلها بعدسته، وجريمة مركبة تفضح وجه الاحتلال الحقيقي، الذي لا يملك أعتى منظومة عسكرية وتخيفه "كاميرا"!

استشهد اصليّح، على سرير علاجه في قسم الحروق داخل مشفى ناصر الطبي، بمدينة خانيونس، جنوبي قطاع غزة، إثر استهدافه من قبل طائرة إسرائيلية مسيّرة. هذه المرة لم تخطئه بعد أن نجا قبل وقت من اغتيالٍ مشابه لتُبث صورة المجزرة هذه المرة "بلا توقيعه"! صورة كان هو فيها "الشهيد البطل".

استهدف حسن داخل المستشفى، في الغرفة التي كان يتلقى فيها العلاج، وهذا لم يكن بدعًا في تاريخ "إسرائيل" الملطخ بدم ضحاياها الذين تقتلهم على عين العالم، دون أي اعتبارات للقوانين الدولية.

في كانون الثاني/ يناير من العام 2024، اقتحم 12 جنديًا من قوات "اليمام" الإسرائيلية الخاصة، متنكرين بزي أطباء وسيارة إسعاف، مستشفى "ابن سينا" في جنين. أعدموا الجريح المُقعد باسل الغزاوي، من مسافة الصفر على سريره، وأجهزوا على اثنين من مرافقيه. 
يومها، وضع أحد قتلة "اليمام" فوهة بندقيته في فم الجريح المصاب بالشلل، وأطلق الرصاص مباشرة. تلك الجريمة مرّت على عين العالم وسمعه دون أن يحرك ساكنًا.. فهل يمكن أن تُحاسب "إسرائيل" على قتلها حسن بطريقةٍ أكثر دموية وعنفًا؟

زملاء الميدان

الصحافي محمد الأطرش، بدأ حديثه لـ"البوابة 24" بصوتٍ متحشرج، وقال: "سكت صوت حسن، لكن صورته وهو على سرير المشفى شهيدًا ستظل شاهدة على أبشع جرائم المحتل".
وأشار إلى أن ما حدث كان صدمة كبيرة، "فحسن لم يكن مجرد صحافي. كان أخًا ورفيقًا ومدرسة في الشجاعة والإقدام. كان دائمًا في الصفوف الأولى للتغطية، ينقل صوت الحقيقة دون خوف" يضيف.
بالنسبة لمحمد، فإن رحيل زميله حسن سيترك فراغًا عميقًا في قلبه، وفي الوسط الصحفي، "حسن كان صوت المهمشين، يوثق الألم والأمل (..) سنفتقده إنسانًا، وصديقًا، وقلبًا نابضًا بالشجاعة".
ما حدث مع حسن صليّح، يأتي ضمن سلسلة طويلة من الاستهدافات الممنهجة، التي يتعرض لها الصحافيون في غزة، حيث وصل عدد شهداء الحقيقة منذ بدء الإبادة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023م، إلى 213 صحافيًا/ـة، وفق المركز الإعلامي الحكومي.
"في غزة لا توجد أي ضمانات للحماية حتى لو ارتديت كل معدات السلامة. الخوذة والدرع قد يحمياك من الشظايا والطلقات العرضية، لكنها لن تمنع استهداف الصحافي بشكل متعمد (..) لا حصانة دولية ولا حماية لصحافيي غزة، ما زلنا على رأس عملنا ننقل الحدث ولن نتراجع، ولو كان الثمن حياتنا".

ويرى الصحافي يحيي اليعقوبي، أن استهداف حسن اصليّح داخل مستشفى، وهو جريح، لا يفتح جرحًا شخصيًا فقط، بل يُبكينا على الواقع الصحفي بأكمله في غزة.
يقول: "هذا الوقع يشعرك بأن الكاميرا في يدك تترنح قهرًا. حسن لم يكن مجرد ناقل للخبر، بل مرآة.. كان مرآة لغزة، لوجع الأمهات ودموعهن ولآهات المكلومين، ونافذة غزة للعالم".

"الشاهد شهيد"

ولم يمر خبر استهداف حسن على يحيى وزملائه مرور الكرام، لقد كان فاجعة كبيرة، أدخلت الوجع في كل بيتٍ بغزة. يحكي: "حسن لم يغادر الميدان منذ نحو 19 شهرًا. كان شاهدًا على جرائم ومجازر كثيرة، وكان صوت المطحونين هنا. قبل أن يكون اسمًا مشهورًا حسن هو حبيب الكل، وصاحب صاحبه".

ويؤكد اليعقوبي أنه عندما تُستهدف الصحافة، فإن الإنسانية تسقط من ضمائر العالم، "فالصحافة هي ناقلة الحدث وليست صانعته، لكن الاحتلال يحاول قلب الحقائق، ويبيح المحرمات الدولية".

حسن، الذي بدأ العمل الصحافي في عام 2009م، كان يصفه زملاؤه في الميدان بـ"وكالة الأنباء المتنقلة"، كان يصول بكاميرته شمالي القطاع وجنوبه. قلما تخلو الأحداث من صورٍ تحمل توقيعه، ونادرًا ما يفوته مشهد! لا ترى صورته كثيرًا، وقد لا تسمع صوته، لكن أرثه الإعلامي الذي تركه، كفيل بأن يجعل ذكراه تحفر في صخر المهنة.. اسمًا لا يُنسى، وإخلاصًا لا مثيل له.
تميزت قناته على تطبيق "تليغرام"، بأنها من القنوات الجديرة في مواكبة الأحداث المتسارعة لحرب الإبادة، والأهم أنها دقيقةٌ بحيث تعتمد عليها وكالات الإعلام المحلية والدولية، والأكثر متابعة.

وهذا ما جعله يواجه تحريضًا واضحًا وصريحًا من قبل وسائل إعلام عبرية، غذت نية جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي لطالما كان يهدده باغتياله على مسمع العالم ومرآه.
وودعت مراسلة قناة سوريا زميلها حسن أثناء تشييع جنازته بقولها: "ما في إشي بيكسر القلب أكثر من إنك تشوف زميلك يستشهد على سرير المستشفى! حسن ما مات في الميدان، مات وهو جريح في مكان يُفترض أنه آمن".

أمسكت شروق هاتفها النقال، وقلبت الصور بحثًا عن  ذكريات ولحظات جمعتها به في الميدان، وأضافت والبكاء يحاصر صوتها: "ليس بالأمر الهين أن نتقبل هذا الخبر، ونستوعب أننا سنمارس مهنتنا بدون حسن ولمسته وبصمته وبساطته"، مضيفةً بحرقة: "قبل أشهر أعددت عنه مادة صحافية وتحدث لي بطريقة هادئة كعادته عن التهديدات الإسرائيلية التي لم تفارقه طوال مدة الحرب، ورغم ذلك بقي يمارس مهنته وينقل أوجاع الناس دون خوف، يتحرك وينتقل ويواكب الحدث علنًا غير خائفٍ من أن يكون ثمن الوصول بأصوات الضحايا روحه حتى".

وتتابع: "كان صحافيًا إنسانًا بالدرجة الأولى، كيف لا؟ وجل الأهالي المكلومين كانوا يلجأون إليه لنشر منشاداتهم.. تحديدًا الجرحى والمرضى".
بفقدانه ستفقد الصحافة الفلسطينية، قامة صحافية، وفق شروق، "ولن يعوض إخلاصه أحد مهما مر الزمان" تقول.

جريمة مركبة

بدوره أكد الناشط الحقوقي في الضفة الغربية، سعيد عبد الله، أن استهداف الصحفي حسن صليح، وهو في وضعية مركّبة كـصحفي وجريح وموجود داخل مرفق طبي مدني، جريمة متكاملة الأركان، وانتهاك جسيم للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.
وأوضح أنه كصحفي محمي بموجب المادة (79) من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، ولا يُعد هدفًا عسكريًا مشروعًا، ما لم يشارك مباشرة في القتال، مشيرًا إلى أن استهدافه في المرة الأولى أثناء قيامه بواجبه الإعلامي يُعد جريمة حرب.

وطالب عبد الله، المجتمع الدولي، والمؤسسات الحقوقية، بالدفع باتجاه فتح تحقيق دولي مستقل حول استهداف اصليّح وعشرات الصحافيين/ات في قطاع غزة، (عبر مجلس حقوق الإنسان أو المحكمة الجنائية الدولية).

البوابة 24