موت بطيء في غزة: معاناة مرضى الفشل الكلوي بين نقص الأدوية وتدمير الأجهزة

سيدة فلسطينية على جهاز غسل الكلى في مستشفى ناصر
سيدة فلسطينية على جهاز غسل الكلى في مستشفى ناصر

غزة/ البوابة 24- رشا أحمد:

في أعماق المعاناة في قطاع غزة، حيث تتداخل آلام الحرب مع قسوة الحصار، يُسطر مرضى الفشل الكلوي مأساتهم اليومية. لا يُسمع صوت معاناتهم في نشرات الأخبار، ولا تصل صورهم إلى شاشات العالم، رغم أنهم يموتون ببطء في صمتٍ قاتل. فبين قصفٍ لا يتوقف، وحصارٍ خانق، وأجهزة غسيل مدمرة، يجد هؤلاء المرضى أنفسهم في سباق مع الزمن، تنتظرهم جلسات غسيل متأخرة، وأدوية مفقودة، وحياة معلقة بخيطٍ رفيع. هنا، لا تسجل سوى أسمائهم في السجلات الطبية، بينما يغيب الأمل في العيون، وينقض الموت شيئًا فشيئًا.

هنا، لا تدوي فقط أصوات القصف، بل يُسمع أنين المرضى أيضًا. أنين يتكرر ثلاث مرات أسبوعيًا – في حال توفرت الجلسات – لكنه بات مؤخرًا أنينًا مؤجلًا، لأن العدو لا يكتفي بالقصف، بل يفرض حصارًا خانقًا يُجرِّد القطاع من أدنى مقومات الحياة، بما فيها الحق في العلاج والبقاء.

شهادات من قلب الألم

في قسم الغسيل الكلوي بمستشفى ناصر ، يجلس "أبو محمد" (70 عامًا) على كرسيه البلاستيكي المهترئ، متكئًا بجسده المنهك، ويقول بصوت خافت: "أصبحت حياتي رهينة لجلسات الغسيل التي لا أتمكن أحيانًا من الحصول عليها. في كل مرة أؤجل فيها جلسة، أشعر أنني أقترب أكثر من النهاية. لم أعد أطيق هذا الانتظار الذي يقتلني ببطء."

أما "أم أحمد" (63 عامًا)، فتصف حالتها قائلة:  "لا توجد أدوية، وإن وُجدت فهي لا تكفي الجميع. إذا تأخرت الجلسة، أشعر بالدوخة والقيء وتورم في الجسم. نحن لا نعيش، نحن ننتظر الموت في طوابير الغسيل."

لكن الحكاية الأشد ألمًا جاءت على لسان والدة الطفلة "سارة" (9 أعوام)، المصابة بالفشل الكلوي منذ عمر الثالثة: "سارة تبكي كلما تأخرت جلستها. الأجهزة لم تعد تعمل جيدًا، بعضها تدمر في القصف الأخير. لا دواء ولا طعام مناسب. نعيش في رعب دائم. نخشى أن نخسرها في أية لحظة."

9ba32522-971f-46e6-816e-1f91b16b23f1.jfif
 

خطر الانهيار الكامل

الدكتور محمود جلال وادي، رئيس قسم أمراض الكلى في مجمع ناصر الطبي، يصف الوضع بأنه "كارثي بكل المقاييس"، ويضيف:"نقص الأدوية والمحاليل، وتعطل العديد من أجهزة الغسيل الكلوي بسبب القصف أو عدم توفر قطع الغيار، يهدد حياة مئات المرضى يوميًا. بعض المرضى يتلقون جلسة كل 6 أيام بدلًا من كل 3، وهذا يعرضهم لتراكم السموم بشكل قاتل."

ويتابع: "المنظومة الصحية تنهار أمام أعيننا. هناك من يموت في منزله لأنه لم يتمكن من الوصول إلى المستشفى، أو لأنه لم يحصل على دوائه. نناشد العالم أن يتدخل، لأننا نفقد مرضانا ونحن نعلم أن إنقاذهم كان ممكنًا."

امراض الكلى.jfif
 

نقص التغذية: تأجيل الموت لا منعه

لا يقتصر الخطر على الغسيل والأدوية، بل يمتد إلى غياب التغذية السليمة. تقول "أم أحمد":"حتى الطعام الذي نحتاجه للحفاظ على صحتنا لم يعد متوفرًا. لا بروتينات، لا خضار، لا فواكه. لا نملك المال، ولا السوق يملك البضاعة."

وتؤكد تقارير صحية محلية أن 80% من مرضى الفشل الكلوي في غزة يعانون من سوء تغذية حاد، يؤدي إلى ضعف الجهاز المناعي، ويزيد من احتمالية الإصابة بالتهابات ومضاعفات مميتة.

إحصائيات مفزعة: ارتفاع حاد في الوفيات

بحسب وزارة الصحة الفلسطينية، توفي 27 مريضًا بالفشل الكلوي منذ بداية عام 2025 نتيجة تأخر الجلسات وانعدام الأدوية، ما يمثل زيادة بنسبة 30% عن الأعوام السابقة. وتشير البيانات إلى أن نحو 70% من مرضى الفشل الكلوي مهددون بالموت في أي لحظة، بسبب تدمير البنية التحتية الصحية وصعوبة الوصول إلى العلاج.

أما تقرير "الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" فقد وثّق تدهور حالة ما بين 1000 و1500 مريض بسبب انقطاع خدمات الغسيل، ونقص الكهرباء والوقود والمياه النظيفة، واستهداف المراكز الطبية.

امراض الكلى1.jfif
 

دعوات دولية عاجلة للتدخل

في أبريل 2025، أصدرت منظمة الصحة العالمية تقريرًا دعت فيه إلى فتح المعابر بشكل عاجل، وإدخال الأدوية والمستلزمات الطبية إلى قطاع غزة. وحذرت من موجة وفيات جماعية إذا استمر الوضع على ما هو عليه، مطالبةً بحماية المرافق الصحية، وتسهيل عمل الطواقم الطبية وضمان حصول المرضى على علاجهم دون عوائق.

الواقع الصحي في غزة يُظهر بوضوح أن مرضى الفشل الكلوي يُتركون لمصيرهم، بين قصف متكرر، وحصار خانق، ونظام صحي يتآكل تحت وطأة التجويع والتجفيف.
إن صمت العالم عن هذه المأساة هو شكل من أشكال التواطؤ. فهؤلاء المرضى لا يطلبون معجزة، بل فقط حقهم في الحياة. إما أن يتم التحرك الآن، أو أن يكتب التاريخ أن غزة ماتت على سرير الانتظار.

البوابة 24