غزة/ أمل الوادية
"كنت ألوّح له بأصابعي، لعلّه يراني، لكنه لم يستجب. أدركت حينها أنه فقد بصره"، هكذا بدأت والدة الطفل يوسف النجار حديثها، وهي تروي رحلتها الطويلة منذ ولادته بمرض "الجلوكوما"، وحتى اللحظة التي سرقت فيها الحرب نظره رويدًا رويدًا.
والجلوكوما، أو(الماء الأزرق)، هو عبارة عن مجموعة من اضطرابات العين تؤدي إلى تلف تدريجي للعصب البصري، وتحدث عندما لا يُصرَّف السائل الموجود في العين (السائل الهدبي) بشكل صحيح، مما يزيد الضغط داخل العين والعصب، وبالتالي التسبب بفقدان البصر إذا لم يُعالَج في وقت مبكر، وبانتظام.
لم يكن يوسف يعاني من مشكلة كبيرة قبل الحرب. كانت أمه تتابع علاجه بانتظام في مستشفى العيون بمدينة غزة، حيث أجرى عملية زراعة صمام، وكان يتلقى العلاج والأدوية بانتظام.
لكن مع اندلاع الحرب، تعذّر الوصول إلى المستشفيات، ولم يعد هناك مكان آمن أو مرفق صحي يعمل. "كان من المفترض أن نتابع حالته في بداية الحرب، لكن المستشفيات توقفت، والوضع الميداني كان صعبًا جدًا"، تقول لـ"نوى".
تدريجيًا بدأت تظهر المضاعفات على عينه اليمنى، احمرار متزايد وبياض ينتشر، حتى غابت الرؤية تمامًا، وأقر الأطباء حينها أنه فقد بصره كليًا. "بكيت كثيرًا، وقلت للطبيب: أرجوك، اعمل له عملية أو أعطه أي علاج يساعده ليرى، لكنه قال إن الوقت تأخر كثيرًا"، تروي والدته بصوت يذوب حزنًا.
كانت ترسله إلى الروضة ليتعلم، ثم تجلس لتعليمه الكتابة، لكنه لم يكن يرى الدفتر أو القلم. ورغم ذلك، لم تستسلم. جابت مستشفيات القطاع بحثًا عن بصيص أمل، حتى أخبرها أحد الأطباء: "لا أمل منه"، تصف تلك اللحظة بالقول: "كأن سكينًا غُرس في قلبي. أيقنت حينها أن كل تعبي ذهب سدى، وانتهى كل شيء في لحظة".
الخوف الأكبر الآن، أن تلقى العين الأخرى المصير ذاته. تخبرنا أمه: "عينه اليسرى بدأت تعاني من ازدياد في البياض، وإذا لم يُجرِ العملية اللازمة، قد يفقدها أيضًا. لا يوجد علاج في القطاع، ولا يمكن إجراء العملية هنا، فكل شيء غير متوفر".
وتضيف بحسرة: "قال لي مرة: ماما بدي أرجع أشوف، لكنني لم أستطع فعل شيء له، وهذا أصعب ما في الأمر".
الوجع ذاته تعيشه هبة الزعيم، التي فقدت بصرها بالكامل خلال الحرب، وهي التي طالما حلمت أن تكمل رسالتها كمعلمة علوم في مدرسة مصطفى حافظ، التي ارتُكبت فيها مجزرة إسرائيلية.
منذ ولادتها كانت تعاني من مرض "الجلوكوما"، وفقدت بصرها في العين اليسرى، لكن اليمنى كانت تتحسن بعد عملية زراعة صمام أجرتها في مستشفى "سان جون" بالقدس. "عاد الضغط إلى وضعه الطبيعي، وبدأت أرى بشكل جيد"، تقول.
ثم جاءت الحرب، وقلبت موازين كل شيء. "بدأتُ أعاني من تهتك في القرنية، وازدادت المياه البيضاء داخل العين. قال لي الأطباء إن الصمام لم يعد قادرًا على تحمّل الضغط"، تقول.
تحدثنا هبة عن أن الرؤية بدأت الرؤية تغيب عنها تدريجيًا، حتى فقدتها كليًا: "صرت أقع حين أنهض، لا أرى شيئًا، حتى الذهاب إلى الحمام صار مهمة صعبة".
كان الأطباء قد قرروا إجراء عملية لإزالة المياه البيضاء، لكنهم خافوا من فشلها بسبب ظروف الحرب، فتم تأجيلها. "طال الوقت، وفقدت بصري تمامًا" تعقب بحرقة.
في البداية لم تصدق ما حدث. كانت تسأل مَن هم حولها باستمرار: "أنا لا أرى؟ أم أن هناك دخانًا أو غبارًا حولنا؟"، حتى جاء اليوم الذي أدركت فيه الحقيقة. تصفه قائلة: "كان أصعب يوم في حياتي. بكيتُ كثيرًا، لقد عزّت عليَّ نفسي".
وتطالب هبة، كما باقي مرضى الجلوكوما، بالسماح لهم بالسفر لتلقي العلاج، في ظل انعدام الإمكانيات في قطاع غزة.
ويؤكد مدير مستشفى العيون في غزة، الدكتور عبد السلام صباح، أن الحرب تسببت بفقدان حوالي 1600 مريض لبصرهم، منهم 30% من مرضى الجلوكوما.
وأوضح أن المستشفى توقف عن العمل تمامًا أثناء الاقتحامات الإسرائيلية، التي دمّرت جميع الأجهزة والمعدات والأدوات الطبية، بشكل متعمد، مضيفًا: "نواجه نقصًا حادًا في الأجهزة التشخيصية والجراحية، وهناك العشرات مهددون بفقدان بصرهم ما لم تُقدَّم لهم الخدمات العلاجية اللازمة".