غزة/ البوابة 24- رشا كحيل:
في زاويةٍ "ناجية" من أحد منازل مدينة خانيونس، جنوبي قطاع غزة، يعيش محمد أبو رجيلة (38 عامًا) في ظلامٍ دامس.
لم يعد الرجل يرى شيئًا سوى السواد، بعد أن أطفأت الحرب نور عينيه إلى الأبد، وسلبته كل شيء! "حتى رؤية أطفالي يضحكون" يقول لـ"البوابة 24".
بدأت معاناة محمد، حين تضررت شبكية عينه اليمنى بمرض السكري، ففقد النظر فيها، إثر ذلك صدرت له تحويلة للعلاج في القدس بتاريخ السادس من أيار/ مايو 2023م.
بعد عمليةٍ أجراها هناك، عاد إلى غزة في انتظار موعد المراجعة، وكان محددًا في كانون الأول/ ديسمبر من نفس العام، لكن الحرب الإسرائيلية التي اندلعت في السابع من تشرين أول/ أكتوبر 2023مغيّرت كل شيء.
الحصار الذي فرضه الاحتلال على كافة معابر القطاع، منذ أكثر من عام ونصف، منع عنه الدواء والمتابعة الطبية، فتدهورت حالته سريعًا، وبعد عشرة أشهر، اضطر لإزالة السليكون الذي زُرع في عينه بمستشفى الهلال الأحمر داخل غزة، لكن الوضع لم يتحسن!
ومع تفشي المجاعة، وتردي الغذاء الذي يستهلكه المواطنون بغزة، بدأت الشبكية في عينه الأخرى بالتلف، وأصيب بارتفاع ضغط العين، وتلقى علاجًا خاطئًا أنهى الحكاية كلها، وتسبب بفقدانه الكامل للبصر في عينيه الاثنتين.
في العاشر من آذار/ مارس 2025م، تواصلت معه منظمة الصحة العالمية لإحالته إلى مستشفى الأوروبي تمهيدًا للسفر إلى مصر للعلاج، لكن وزارة الصحة أبلغته بأنه مرفوض أمنيًا إلى جانب ستةٍآخرين، رغم نفي الجهات المصرية وجود أي مانع من دخولهم. واليوم، يعيش محمد في عزلة تامة، فاقدًا لبصره، وعاجزًا عن إعالة أسرته أو حتى الخروج من منزله بمفرده.
وعلى بعد أمتارٍ قليلة من منزل محمد، يخيم الحزن على عائلة الطفل محمد معمّر، صاحب العشر سنوات، الذي فقد بصره هو الآخر، لكن بطريقةٍ أبشع. شظيةٌ أصابت دماغه مباشرة في مركز البصر، فسرقت منه رؤيته وحركته معًا!
يقضي الطفل يومه بين الجدران، بنصف جسد يتحرك، وسط ظلامٍ دامس يلاحقه في وضح النهار، وحرقة قلب عائلته، العاجزة عن تقديم أية مساعدة.
يقول والده، أحمد معمر: "أقضي ساعات يوميًا في البحث عن طعام يُقوّي جسد طفلي الهزيل، لكن في كثير من الأحيان لا أجد ما أشتريه. صحته تتدهور يومًا بعد يوم، وما يؤلمني أنه لا يشتكي من الشلل، بل يقول لي: أنا معلش إذا ضليت مشلول، بس نفسي أشوفك أنت وماما وإخواتي".
أما هيا النشار (23 عامًا)، فكان نصيبها من الحرب أن تفقد عينها اليمنى بشظية صاروخية خلال نزوحها مع عائلتها إلى مدينة رفح، التي كانت تُصنّف آمنةً حينها. استأجروا منزلًا هناك على أمل النجاة، لكن في السابع والعشرين من آذار/ مارس 2024م، قصف الاحتلال المنزل دون سابق إنذار.
ومنذ أكثر من عام وثلاثة أشهر، تنتظر هيا تحويلة طبية للسفر من أجل العلاج في الخارج، لكنها لم تأتِ بعد. الأمل الوحيد في أن تستعيد جزءًا من نظرها يتلاشى يومًا بعد يوم، بينما يختنق القطاع تحت أنقاض الموت والحصار.
ووفقًا لبيانٍ صادرٍ عن وزارة الصحة في غزة، فقد 1500 مواطنًا بصرهم بشكل كامل منذ بدء الحرب، في حين يواجه 4000 آخرون خطر فقدانه، في ظل نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية.
الوزارة حذرت من كارثة صحية تتهدد مرضى العيون، خاصة أولئك الذين يعانون من اعتلال الشبكية الناتج عن السكري والنزيف الداخلي. وأشارت إلى أن مستشفى العيون في غزة يعمل حاليًا بثلاثة مقصات جراحية فقط، مستهلكة وتُستخدم بشكل متكرر، ما يزيد من مخاطر العدوى ويمنع إجراء العمليات اللازمة.
وأضافت: "المواد الأساسية مثل "الهيلون" والخيوط الدقيقة توشك على النفاد الكامل، ما يعني أن المستشفى على وشك فقدان القدرة على تقديم أي خدمات جراحية، في حال لم يتم التدخل العاجل.
أما منظمة "أونروا"، فأشارت إلى أن الاحتلال يمنع إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع منذ أكثر من 9 أسابيع، رغم وجود آلاف الشاحنات الجاهزة للدخول، في وقت يتزايد فيه عدد من لا يمكن إنقاذهم من أبناء القطاع.
من جهتها، أكدت منظمة الصحة العالمية أن المخاطر الصحية تتفاقم بشكل متسارع بسبب انقطاع الإمدادات الطبية لأكثر من شهرين. وفي الثاني من مارس/آذار الماضي، توقفت المعابر بشكل كامل، مما أوقف دخول المواد الإغاثية والوقود، وفاقم المأساة التي يعيشها أكثر من مليونَي إنسان محاصرين داخل غزة.
في كل منزل قصة، وفي كل قصة عين فقدت نورها. وبينما تغلق الأبواب أمام المرضى الباحثين عن علاج أو تحويلة، تبقى غزة وحدها تصارع العمى، لا فقط في أعين أهلها، بل في بصيرة العالم الذي يرى ولا يتحرك.