ضحايا بلا أسماء.. جمع عينات DNA يكشف أسرار مجهولي الهوية في غزة

الطواقم الطبية
الطواقم الطبية

غزة/ البوابة 24- رشا أحمد:

في ظل الدمار الشامل في غزة، تُدفن مئات الشهداء في قبور مجهولة بلا أسماء، دون معرفة هوياتهم أو حق ذويهم في وداعهم. هؤلاء "مجهولو الهوية" هم شهداء لم تُسلَّم جثامينهم لعائلاتهم، وبعضهم مستخرج من تحت الأنقاض في حالات صعبة، والبعض الآخر لم يُعثر عليهم أو يُسجلوا في قوائم الشهداء والمفقودين. وفق وزارة الصحة الفلسطينية، تجاوز عدد الذين دُفنوا كمجهولي الهوية 850 جثمانًا حتى مايو 2025، فيما سجل مركز الميزان أكثر من 3,200 حالة فقدان، بينهم مئات الأطفال والنساء، كثير منهم لا يُعرف مصيرهم حتى الآن.

مع اشتداد  القصف واستهداف كل ما يتحرك، لجأت الطواقم الطبية والدفاع المدني إلى دفن الجثامين بشكل طارئ، وفي ظروف شبه مستحيلة. لم تكن هناك أماكن آمنة ولا مقابر منظمة، فاستُخدمت الحدائق العامة وساحات المدارس والمناطق الزراعية كمواقع دفن مؤقتة.

في مستشفى ناصر، تحدث أحد المسعفين قائلًا: "دفنّا بعض الجثث دون أن نعرف من هم. فقط رقم، صورة إن أمكن، ثم دفن سريع. بعضهم لا نعرف حتى هل هم رجال أم نساء. كل ما نعرفه أن الوقت لا يسعفنا، والنار من حولنا".
وهكذا، وجد كثير من الشهداء طريقهم إلى التراب دون أن يُذكر اسمهم، ولا أن تبكيهم عائلة على قبر، بينما بقي آخرون طي النسيان، لا جثة وُجدت ولا أثر تُرك... وهناك من لا يزال مصيرهم مجهولًا بالكامل.

شهادات أمهات مكلومات

إكرام نصر من غزة فقدت ابنها سمير (14 عامًا) بعد قصف استهدف منزلهم، لكنها لم تعرف مكان دفنه، تقول: "قالوا استشهد، لكني لم أره، ولا أعرف أين دفنوه. أريد فقط زيارة قبره."

رشيدة عوض الله من خانيونس فقدت ابنها بنفس اليوم الذي أصيبت فيه ببتر رجلها، تقول: "أبحث عنه في كل مكان، لا أعلم إن كان مدفونًا أم تحت الركام أم حيًا."

عبير محمد عواد فوجو، نازحة من رفح، تقول: "فقدت ابني في الحرب. عندما عرضوا عليّ بعض الملابس التي انتشلوها، عرفت إحداها كانت له. أخذت الملابس، لكنني لا أعلم أين دُفن. لم يسمحوا لي بكفنه أو توديعه. بعد ثمانية شهور، بدأوا يجلبون العظام وبقايا الجثث، كأنهم يعيدون المأساة."

bdd984ca-3e4b-4563-8fe6-39a7c21d4075.jfif
 

التوثيق الهش والضياع في الفوضى

رغم محاولات وزارة الصحة تسجيل الجثامين المجهولة بالأرقام وتصوير بعضها، إلا أن حجم الدمار، وغياب الأدوات التقنية، وانعدام الأمن، كلها عوامل أدت إلى فقدان السيطرة على العملية. كثير من الجثث دُفنت دون تصوير أو تسجيل، فيما ضاعت السجلات الورقية أو أُحرقت خلال القصف.
وفي ظل هذه الفوضى، سُجلت عشرات الحالات التي لم تُعثر لها على أي بيانات. ومع مرور الوقت، بدأت بعض العائلات تطالب بفتح القبور، أو إجراء فحوصات DNA، لكن لا توجد جهة رسمية تنظم هذا الملف المعقد.

غياب خطة وطنية لتحديد الهويات

حتى اللحظة، لم تُشكل أي لجنة وطنية متخصصة لفحص رفات المجهولين أو مطابقة الحمض النووي. وزارة الصحة عبّرت عن رغبتها بتوثيق أدق في مرحلة ما بعد الحرب، لكنها تعاني من شُحّ الكوادر والمعدات، خصوصًا مع استهداف المختبرات المركزية.
وأشار الدكتور محمد شموط من مؤسسة اطباء بلا حدود الى انطلاق مبادرة لجمع عينات من أهالي المفقودين، لكن المشروع محدود ولم يشمل إلا نحو 300 عائلة فقط حتى الآن.

آلاف المفقودين... والمصير المجهول يخيم

وفق مركز الاعلام الحكومي، بلغ عدد المفقودين في غزة أكثر من 9000شخص، بينهم أكثر من 1,200 طفل. جزء من هؤلاء قد يكونوا ما زالوا تحت الأنقاض، وجزء آخر ربما تم دفنه دون تحديد هويته. ومع استمرار الحرب ومنع طواقم الإنقاذ من الوصول للعديد من المناطق، يظل مصير هؤلاء مجهولًا، بل ومخيفًا.

سليم النجار، الذي فقد ثلاثة من أطفاله، قال: "ربما ماتوا أو ما زالوا تحت الردم. لا أحد يخبرني شيئًا. لا جثمان، ولا معلومة، ولا قبر لأزوره."

a29c16a9-a580-418c-b40f-aaaa24c6bea5.jfif
 

دور المنظمات والبعد القانوني

وثقت منظمات حقوق الإنسان هذه الكارثة، وطالبت بفتح تحقيقات عاجلة حول المفقودين ومجهولي الهوية، وتوفير فرق دولية لتوثيق القبور الجماعية وحفظ العينات البيولوجية.

اللجنة الدولية للصليب الأحمر بدأت بجمع عينات DNA لكنها تواجه تحديات أمنية ولوجستية. وقال ممثلها للبوابة 24: "نعمل ببطء لبناء قاعدة بيانات للعائلات. القبور موزعة وعشوائية، وبعضها دفن دون إشراف طبي."

قانونيًا، دفن الأشخاص بلا تحديد هويتهم وحرمان ذويهم من حق التأكد من مصيرهم يشكل انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني، خصوصًا اتفاقية جنيف الرابعة. التوثيق الدقيق حق أساسي للعائلات وركيزة للعدالة لاحقًا.

جراح مفتوحة وذاكرة لا تُدفن

في غزة، حيث لا يتوقف القصف ولا يُعرف نهاية الحرب، هناك جرح جديد ينزف بصمت: جرح المجهولين. ليس فقط من دُفنوا بلا أسماء، بل من لم يُعثر عليهم أصلاً، ومنهم من ما زال تحت الركام أو في قبور بلا شاهد.

الدموع لا تكفي، والصمت لا ينقذ، والتجاهل جريمة. يجب تحرك دولي لتشكيل لجان طوارئ لتحديد هوية الشهداء، ولتمكين كل أم من معرفة مكان ابنها، ولكل أب أن يُودع ولده، ولو كان جثمانًا.

المصير المجهول لا يجب أن يكون نهائيًا. الأرض تعرف أسماء شهدائها وتحفظها، ولا بد أن تعرف قبورهم من هم.

هذه القضية ليست أرقامًا فقط، بل وجع آلاف الأسر التي تنتظر الوداع الأخير لأبنائها، وشهادة حياة لمن رحلوا في ظلام الحرب.

البوابة 24