غزة/ البوابة 24- ملاك أبو عودة:
منذ السابع من أكتوبر 2023، انقلبت حياة النساء في غزة رأسًا على عقب. لم يعد الدور التقليدي للمرأة قائمًا كما كان؛ بل دفعت ظروف الحرب الكثيرات إلى الخطوط الأمامية في معركة البقاء. في ظل الدمار الشامل، وانهيار الاقتصاد، وفقدان المعيل، برزت المرأة الغزية كركيزة أساسية لإعالة الأسرة، وسط ظروف قاسية، وواقعٍ يفوق طاقة البشر. في كل خيمة، وفي كل زاوية من زوايا النزوح، توجد امرأة تحارب الفقر، وتخفي وجعها لتطعم أبناءها، وتحاول النجاة بما تبقى لها من كرامة.
واقع معاناة النساء في الحرب بالارقام
بحسب وزارة الصحة الفلسطينية، تجاوز عدد الشهداء في الحرب حتى مارس 2025 أكثر من 50,000 شهيد، بينهم نسبة كبيرة من النساء والأطفال. تسببت هذه الخسائر في فقدان العديد من النساء لأزواجهن وأعالة أسرهن بمفردهن. في السابق، كانت نسبة النساء العاملات لا تتجاوز 17% من القوى العاملة في غزة، لكن الحرب والدمار والبطالة التي وصلت إلى 40% دفعت نساء كثيرات إلى العمل في مهن غير تقليدية، مثل خبز الخبز وبيع الملابس وتحضير الطعام للنازحين. أظهرت دراسات حديثة أن 65% من النساء في غزة اضطررن إلى البحث عن عمل إضافي بعد 7 أكتوبر، لتوفير المصروف اليومي لأسرهن.
قصص واقعية : شهادات حية لنساء لا يستسلمن
ـ أمل ابو الريش ، 33 عامًا، كانت تعتمد في دخلها على بقالة زوجها الصغيرة، لكنها دُمّرت تمامًا تحت القصف. وجدت نفسها مضطرة إلى مواجهة واقع جديد، فأنشأت فرنًا من الطين قرب خيمتها، علّها تجد فيه وسيلة لتأمين المصروفات اليومية.
تقول أمل: "لم أكن أتخيل يومًا أن أعمل في مثل هذه المهنة الشاقة ، لكن لم يكن لدي خيار آخر. أخبز على فرن طيني، وولقد أصيب وجهي ويداي ومعظم أنحاء جسدي بالحروق نتيجة الجلوس طويلا أمام النار ،أسعار الطحين مرتفعة جدًا، وكذلك الحطب، والطلب على الخبز تراجع كثيرًا. الدخل الذي أحصل عليه ضئيل للغاية، ولا يكاد يكفي لتأمين الحاجات الأساسية."
ورغم المعاناة الجسدية والنفسية، تواصل أمل عملها بصمت، بينما تحمل في قلبها أمنية بسيطة:
"أتمنى فقط أن تنتهي هذه الحرب ونعود إلى حياتنا الطبيعية. أتمنى أن تُفتح المخابز ويدخل الطحين إلى القطاع، لكي أتوقف عن هذا العمل المُرهق، فقد أنهكني كثيرا .
ـ نجود كوراع ، 44 عامًا، أرملة وأم لأربعة أبناء، نازحة من خان يونس وتعيش حاليًا في منطقة المواصي. الحرب حرمتها من مصدر رزقها، ولم تجد من يعيلها في هذه الظروف القاسية، فاضطرت إلى بدء عمل جديد في بيع الملابس
تقول نجود:
"بدأت عملي ببيع ثلاث قطع فقط، واليوم تمكنت من تكوين بسطة صغيرة أعرضها بجوار مستشفى ناصر. أذهب يوميًا من المواصي إلى مكان عملي سيرًا على الأقدام لأجمع لقمة العيش."
ورغم مشقة التنقل والعمل، فإن هدفها بسيط وواضح:
"كل ما أطمح إليه هو تأمين رغيف خبز لأبنائي ، وشحن هاتفي لكي أبقى على تواصل مع اولادي فقط، وهذا أقصى ما يمكنني فعله من الربح."
نجود تنهكها المسؤوليات وتثقل كاهلها متطلبات الحياة، لكنها لا تفكر إلا في أبنائها، وتختم بقولها:
"أتمنى فقط أن تنتهي هذه الحرب، فقد تعبت، تعبت كثيرًا من حمل هذه المسؤولية وحدي."
ـ شيرين، 42 عامًا من بيت حانون، نازحة في مواصي خان يونس، أم لسبعة أبناء منهم ذوي إعاقة، وزوجة شهيد. كانت حياتنا قبل الحرب كريمة جدًا، كنت أعتمد على مستحقات زوجي الشهيد لتوفير احتياجات أطفالي بأفضل شكل ممكن، لكن الحرب قلبت كل شيء. مع انقطاع الرواتب، اضطرت للعمل في إعداد المعجنات وبيعها.
بحسرة وألم تقول:
"لم أتخيل يومًا أنني سأعيش مثل هذه الأيام الصعبة، أعمل ليل نهار لكي أتمكن من توفير أدوية أبنائي ذوي الاعاقة، ولكن المبلغ الذي أجنيه بالكاد يغطي جزءًا بسيطًا من ثمن الأدوية التي أصبحت مرتفعة الثمن بشكل كبير."
حتى هذا العمل لم أعد أستطيع الاستمرار فيه، إذ ارتفعت أسعار السكر والطحين بشكل هائل، ولم تعد الناس قادرة على شراء المعجنات، إذ بالكاد يمكنهم شراء الخبز لأطفالهم.
بصوت ملؤه اليأس والأمل تقول: "أمنيتي الوحيدة أن تنتهي الحرب سريعًا، وأن أعود لأعيش حياتي."
نساء يتحدين الحرب: أدوار جديدة من أجل الحياة
دفعت الحرب نساء غزة إلى خضم المواجهة مع الجوع والفقد والخوف. مع فقدان المعيل أو غيابه، وجدت نساء كثيرات أنفسهن مجبرات على تحمل مسؤوليات قاسية في مجتمع ما زالت بعض أعرافه تحصر دور المرأة داخل البيت. لكن الظروف فرضت واقعًا مختلفًا؛ خرجن من بين الركام، يواجهن الحياة بلا سند، يعملن في المهن الشاقة وغير المألوفة، يخبزن، يبعن، ينظفن، ويحملن أثقالًا لم تكن يومًا من مهامهن.
ورغم الضغوط النفسية والاجتماعية، أثبتت النساء أن لديهن قدرة استثنائية على الصمود. تحوّلن من أمهات إلى معيلات، ومن ضحايا إلى عماد لصمود المجتمع في زمن الانهيار. لا يطلبن امتنانًا، بل فقط نهاية لهذه الحرب، وعودة إلى حياة بسيطة وآمنة، يكنّ فيها نساءً لا محاربات من أجل البقاء.
أعباء لا تحتمل : التحديات اليومية للنساء المعيلات
تعاني النساء العاملات في غزة من ظروف قاسية فُرضت عليهن بسبب الحرب. لا يوجد أي دعم حكومي أو مؤسساتي حقيقي يساندهن، ولا أي حماية قانونية تحمي حقوقهن أو تضمن أمنهن. كثيرات يعملن بلا أدوات كافية، ويواجهن صعوبة في التنقل أو الحصول على أبسط المواد اللازمة للعمل. فوق كل هذا، تعيش النساء ضغطًا نفسيًا هائلًا بسبب فقد الأحبة، الخوف المستمر، وانعدام الرعاية الصحية أو النفسية، في وقت هنّ فيه بأمس الحاجة للدعم لا لمزيد من الإنهاك والتعب
لم تعد نساء غزة مجرد ضحايا للحرب، بل أصبحت قوى اقتصادية واجتماعية أساسية في بقاء المجتمع وقصص لا تنكسر، حملن فوق أكتافهن جبال الألم في وجه دمار لا يرحم، لم تستسلم نساء غزة، بل كنّ نبض الحياة الذي ينبثق من قلب الرماد. صمتهن أبلغ من أي صوت، وصمودهن أقوى من أي رصاصة. هنّ اللواتي يكتبن بفقدهن وأوجاعهن صفحة جديدة من التاريخ، صفحة لا تُمحى، تروي قصة أمم لا تموت، وقلب فلسطين الذي ينبض رغم كل شيء.