ألاء الحسنات... أمٌّ من بين الركام.. حين وُلدت الأمومة تحت القصف

الصحفية الاء الحسنات مع سارة
الصحفية الاء الحسنات مع سارة

غزة/ البوابة 24- بسمة أبوناصر

في تلك الليلة من ليالي الحرب على غزة، كانت ألاء الحسنات تحاول سرقة لحظة هدوء من بين الدمار، تقرأ رواية الطنطورية حين استوقفها سؤال: "كم حرب تتحمل حكاية واحدة؟ كم مجزرة؟". لم يكن عليها أن تجيب، إذ جاءها الرد من السماء مباشرة: أربعة صواريخ سقطت على منزل عائلتها في حي الدرج، تلاها اثنان على منزل شقيقها.

في لحظة واحدة، انهار عالمها، وفقدت معظم أفراد عائلتها دفعة واحدة. خرجت من تحت الأنقاض بظهر مكسور وذاكرة مثقوبة، يحتضن قلبها وحشة 23 شهيدًا من أهلها، تبعهم الرابع والعشرون بعد أسبوعين فقط. لكن لم تكن تلك نهاية العالم، بل بدايته من جديد — على نحو لم يخطر لها ببال.

من بين الدمار ووسط الركام، سمعت صوت بكاء… طفلة صغيرة تصرخ من الرعب. كانت سارة، ابنة شقيقتها التي استُشهدت، والناجية من ذلك البيت الذي تحول إلى أطلال.

"بين الصدمة والألم، كانت سارة تبكي بلا توقف، حتى وضعتها في حضني، فسكنت"، تقول ألاء. "شعرت أنها تعرّفت إلي، ومن يومها صارت جزءًا مني".

IMG-20250530-WA0001.jpg
 

رغم أنها لم تكن قريبة من عالم الأطفال، ولم تكن تظن يومًا أنها ستلعب دور الأم، إلا أن الله، كما تقول، "ملأ قلبي بحب سارة". الطفلة التي سرق الاحتلال منها والديها، وجدت في خالتها صدرًا بديلًا مليئًا بالدفء والحنان.

ومع مرور الأيام، بدأت ألاء تدرك حجم المسؤولية الملقاة على عاتقها، فانغمست في قراءة كتب التربية، وتعلّقت بنصائح الصديقات، وراحت تكتشف طريقًا جديدًا في حياتها لم تخطط له يومًا.

"قد يفاجئك أن رفيقتك العيوطة هي أنا"، تقول ألاء بابتسامة حزينة، وتتابع: "لم أستطع البكاء أو الكلام عن الفاجعة لأشهر. الصغيرة التي أرعاها لم أنجبها، لكنني أحاول بكل وحشتي أن أعوضها عن غياب والديها وأحبّتها الذين كانوا يحيطونها بالحنان".

وتستطرد بصوت مرتجف: "أشعر بالذنب أحيانًا لأنني أستمتع بكلمة 'ماما' التي تطرق مسامعي من فمها الصغير. حين تلف ذراعيها حولي أشعر أنني ابنتها، وليس العكس. ربما لأن شعور الأمومة جاء على حساب فقدي الكبير. بداخلي، وإن أظهرتُ الصبر والثبات، كل حزن العالم وغضبه".

الطريق لم يكن سهلًا أبدًا. فتحت الحرب أبواب الفقر والحصار والمجاعة، وكانت ألاء تكافح يوميًا لتوفير الحد الأدنى لسارة… من الحليب إلى الدواء وحتى الملابس.

تغيرت حياتها بالكامل. تركت عملها الصحفي الذي طالما أحبّته، وكرّست وقتها وطاقتها لطفلة واحدة فقط. "أصبحت أعيش لسارة"، تقول. "هي الأمان في وسط خوفي. أسمعها تناديني 'ماما'، فأنسى كل شيء. أشعر أنني أنتمي إليها".

لكن رغم صلابتها الظاهرة، تخفي ألاء في داخلها خوفًا عميقًا. "أخشى على سارة من الفقد من جديد"، تعترف. "حين حدّقت في أحد أقاربي لأن ملامحه تُشبه والدها، شعرت كأنها تنتظر حضنه الغائب. وارتجف قلبي".

سارة، صاحبة العامين، أصبحت مصدر عزاء لألاء. "سارة بنت ذكية وبتفهمني على طول"، تقول. "يعني إذا خفت من صوت الطيارة، بتقلي: بعيد يا ماما… روحوا يا يهود، بعيد، روحي يا طيارة".

وتكمل: "بتثبتني بكلام كنت أقولُه لها لما كانت أصغر. ولو لمحت دموعي، بتمسحهم وبتحضني وبتطبطب. بحسها حنونة كتير وكأنه أنا بنتها، مش العكس".

وتتذكر ألاء موقفًا مؤثرًا: "مرة كانوا يادوب قصفونا، وكان عمرها سنة وشهر تقريبًا. بكيت لما تذكرت أهلي، وكنت مغطية وجهي وببكي بصمت. زحفت لعندي، ورفعت الغطا عن وجهي، وصارت تمسح بايديها وتحضني".

ما بين الفقد والاحتواء، تنسج ألاء وسارة علاقة تفوق الأمومة. علاقة نشأت من بين الركام، وامتدت لتصبح وطنًا صغيرًا في قلب الإبادة.

البوابة 24