تحت الركام.. وداعٌ مؤجل، وميزان إنساني مختل!

صورة توضيحية
صورة توضيحية

غزة/ البوابة 24- باسل جعرور:

لم يعد الموت في غزة نهايةً هادئة، ولا حتى بدايةً لرحلة الخلود، بل صار الموت هنا مُعلَّقاً، يحاصر أجساداً تحت الركام بلا قبرٍ أو وداع، لا ينتظرون يداً تمتد لتحْييهم، بل لتمنحهم حقهم الأخير في الدفن بكرامة.

ففي الوقت الذي تُبذل فيه جهودٌ دبلوماسيةٌ مكثفة لاستعادة جثامين القتلى الإسرائيليين المحتجزين لدى الفصائل في قطاع غزة، تُترك جثث الشهداء الفلسطينيين تحت الأنقاض بلا ضغطٍ حقيقيٍ لانتشالهم، وكأنهم رفاةٌ من الدرجة الثالثة، بما يعكس تناقضاً صارخاً في الموقف الدولي، واختلالاً واضحاً في ميزان مدعي الإنسانية.

نحو 10 آلاف مفقود خلفتهم حرب الإبادة الوحشية على قطاع غزة، جُلهم من الشهداء المحتجزة رفاتهم أسفل الأنقاض، بعد أن قُصفت البيوت على رؤوس ساكنيها، دون أن تفلح جهود الدفاع المدني وطواقم وزارة الصحة في انتشال سوى بضع مئات منها؛ بسبب ضعف الإمكانيات، ومنع الاحتلال الإسرائيلي دخول المعدات اللازمة لرفع الركام.

حِدادٌ مستمر

في مدينة النصيرات وسط قطاع غزة، وعلى بعد خمسين متراً فقط من بيتٍ كان ذات يومٍ مأهولاً بالضحك والطمأنينة، يعيش لطفي أبو خوصة فصلاً من فصول مأساة ممتدة في القطاع المنكوب، يشيح وجهه إلى الجهة الأخرى كلما وقع بصره على أنقاض بيته المدمر، الذي تحول إلى قبرٍ معلقٍ يضم رفاة شقيقه وأربعة آخرين من أفراد عائلته.

يقول أبو خوصة للبوابة 24: "في التاسع من أكتوبر 2024، قصف الاحتلال بيتنا المكون من خمس طوابق، واستشهد فيه خمسة من أفراد العائلة، بينهم شقيقي وزوجته، ثم استهدفوه مجدداً بعد شهرين، وتحول البيت إلى قطع صغيرة، مجرد كوم كبير من الركام، لا يمكن إخراج شيء منه".

ويتابع بعين ملؤها الأسى مستذكراً علاقته مع شقيقه الشهيد: "كنا صحبة لا نفترق، نعيش يومنا بالضحك، ونحلم بحياةٍ مستقرةٍ ومستقبل أفضل حالاً.. والآن، كل شيء تحول إلى ذكرى سيئة، ووجعٍ لا يزول، فالبيت لم يعد بيتاً دافئاً يحتضن تفاصيل حياتنا، بل صار شاهداً على عجزنا، على فداحة الفقد، وعلى حِدادٍ يُطيل عمره حرمانهم من مجرد قبر".

أما إسراء النواصرة، التي تعيش في ركنٍ صغيرٍ من بيتهم المدمر في حي المغازي، تقف بجوار والدها المبتور على أنقاضٍ تحولت على مدار عامين إلى قبرٍ جماعيٍ، تحاول أن تشرح ما لا يُشرح، وتصف ما لا يُحتمل.

في 24 ديسمبر 2024، استهدف الاحتلال هذا المنزل بغارة جوية أودت بحياة 45 شخصًا، من بينهم شقيقي وأطفاله، إضافة إلى نازحين كانوا قد لجأوا إلينا هربًا من القصف. وحتى هذه اللحظة، لا تزال رفات خمسة منهم تحت الركام، بينهم شقيقي وأولاده، ولم نتمكن من انتشالهم رغم مرور كل هذا الوقت.

وفي إشارة إلى طفلين بعمر 17، و11 عاماً، تضيف النواصرة: "حاولنا انتشالهم بأنفسنا على مدار عامي الحرب، بعد أن عجز الدفاع المدني عن الوصول إليهم؛ نتيجة النقص الحاد في المعدات.. وبدأت أنا واثنين من أبناء أخي الصغار بمحاولة الحفر بأيدينا أو باستخدام أدوات بسيطة، واستطعنا انتشال ثلاثة جثث، فيما تبقى خمسة آخرين في عمق الركام".

وتتابع: "لا أعرف وصفاً مناسباً لمشاعرنا بعد كل هذا الألم، إنه مزيج من الحسرة والقهر والإحباط، فمجرد فكرة أن كل خطوة نمشيها هنا تضغط على جسد شقيقي بالأسفل دون أن أستطيع دفنه بشكل لائق بمثابة خنجر يغرز في قلبي، وفي كثير من الأحيان تغزوني فكرة أنه يشعر بالبرد، فأضحي بأحد الأغطية على قلتها وألقيه فوق الركام لعله يشعر ببعض الدفء".

صرخات دون استجابة

عشرات النداءات التي أطلقها الدفاع المدني في قطاع غزة، وغيره من المؤسسات الحقوقية والخدماتية، وشخصيات مجتمعية، إلا أنها جميعها لم تتعدى ارتداد الصدى دون استجابة من أي جهة لهذه الصرخات الإنسانية.

ففي الوقت الذي يتذرع فيه الاحتلال بإمكانية استخدام هذه الآليات والمعدات في ترميم البنى التحتية للمقاومة الفلسطينية، كغطاء لشرعنة خرقه لاتفاق وقف إطلاق النار، تتعطل عمليات إزالة الركام المحتجزة رفاة الشهداء أسفله، بينما يكمن هدف الاحتلال الأساسي في تكثيف أوجاع الغزيين، والإبقاء على القطاع المدمر في طور بيئةً طاردةً للحياة، خدمةً لأهدافه السياسية والأمنية.

وعلى الجانب الآخر، يحكم صمت العالم على أوجاع ذوي المفقودين أسفل الأنقاض، وضمنهم محمد شابط، من مدينة غزة، بالموت البطيء تحت وطأة احتراق القلب، دون أن تلقى مناشداته لانتشاله ذويه هو الآخر، سوى آذانٍ صماء، وأيدي عاجزة.

وبغصة تغمر صوته المرتجف، يروي شابط: "فقدت تسعة من أفراد عائلتي في مجزرة راح ضحيتها ستة وأربعون شهيداً، أخرجناهم على مراحل بأيدينا وبأدوات بدائية، لكن بقي ثلاثة تحت الركام، لم نستطع الوصول إليهم، لأن ذلك يحتاج إلى آليات ثقيلة، وإلى الآن لا توجد استجابة ولم يسمح الاحتلال بمرور المعدات، لنبقى نحن أيضاً أسرى خيبة أملنا الثقيلة كثقل هذا الركام".

وفي إشارة إلى خسارات أخرى، يقول: "دَفن هذا الركام أموالنا ومقتنياتنا النفسية، لكن ما يؤلمنا حقاً ليس كل ذلك، بل أرواح من نحبهم التي فقدناها على حين قصف، الوداع الذي لم يحدث، الصلاة التي لم تُصلّ، والدفن الذي لم يتم".

وأمام الصمت المطبق تجاه الانتهاكات المتواصلة التي تطال أهالي قطاع غزة، دون تمييز بين الأحياء والأموات، تغيب الخطوات الجادة للوفاء بواجبٍ ديني وأصلٍ شرعي لا يسقط إلا بعذر معتبر، في وقتٍ يُحرم فيه نحو عشرة آلاف شهيد من أبسط حقوقهم في الدفن، وتبقى أجسادهم تحت أنقاض منازلهم المدمرة. وكأنهم غدوا طي النسيان، في مشهد يعكس اختلالًا فادحًا في موازين الإنسانية والكرامة.

البوابة 24