ملعقة "سكر".. مسألة حياةٍ أو موت لمرضى بغزة!

صورة توضيحية
صورة توضيحية

غزة/ البوابة 24- حلا أبو عيشة:

بينما كانت أم محمد برهوم (56 عامًا) تغسل وعاء الطبخ المصنوع من الألمنيوم أمام باب خيمتها، في مواصي خانيونس، جنوبي قطاع غزة، سمعت أنينًا. كان صوت زوجها أبو محمد (64 عامًا). لقد سقط أرضًا لتوّه بعد هبوطٍ حادٍ في السكر أصابه.

بسرعة، أخرجت السيدة لفافةً كانت تخبئها عن عيون أحفادها تحت الفراش المكوّم في زاوية الخيمة. سكرٌ معقود، صنعت السيدة منه كمية لزوجها أيام الهدنة، عندما توفرت البضائع في الأسواق مرة. اشترته وذوّبته على النار، ثم لفّته في لفافات صغيرة من النايلون "من أجل يومٍ كهذا" تقول لـ"البوابة 24".

وتضيف بينما كانت تذيب -على عجالة- قطعة السكّر في كوب ماء: "انقطع دواؤه. يعتمد الآن على أدوية منتهية الصلاحية، وقد تسببت لديه بأعراض صعبة مثل الصداع المتواصل، وبقع زرقاء في كافة أنحاء الجسد".

لا يملك أبو محمد، مثل نحو 71 ألف مريض سكري في قطاع غزة -يشتركون في نفس المعاناة- وسائل تبريد لحفظ الأنسولين، نتيجة انقطاع التيار. وهذا ما جعل الاعتماد على السكر الأبيض خيارًا بديلًا من خيارات إنقاذ الحياة.

"لكن أسعار السكر مخيفة" تستدرك أم محمد، متسائلةً بحرقة: "ماذا يعني أن يتجاوز سعر الكيلو الواحد 30 دولارًا.. كيف تريدون أن نشتريه؟".

ويُبرز تقرير حديث لمنظمة (Human Rights Watch ) أن هناك "نقصًا حادًا في الإنسولين" بغزة، وأن أي مريض من النوع الأول معرض للموت في أية لحظة، في حين أشارت تقارير لمنظمة (T1International) إلى قيام غالبية المرضى بتخفيض جرعاتهم للحفاظ على الدواء موجودًا لديهم أطول فترة ممكنة.

في خيمته وسط قطاع غزة، كانت الساعة تقترب من منتصفِ الليل حينَ انتفضَ جسدُ الحاج أحمد أبو درابية، ذا السبعةِ والثمانين عامًا بسبب هبوطٍ حادٍ في سكر الدم. همَسَ بالشهادتين خوفًا من غيبوبةٍ قد لا يخرجُ منها، فأدويته مفقودة منذ أسابيع، والموجود منها "فاسدٌ يقينيًا"؛ نتيجة حفظه في ظروفٍ غير مواتية لعدم وجود كهرباء لتشغيل وسائل التبريد.

منذ اندلاع الحرب، أصبحتْ طقوس الحاج أحمد اليومية مع الأنسولين أقرب إلى مغامرة: إمّا أن يأخذَ جرعة على معدةٍ فارغة فينهارُ ضغطه، أو يمتنعَ عنها فيرتفع السكرُ بشكلٍ يضره.

وتظهر أعراض هبوط السكر على المرضى، على شكل تعرق شديد، وارتعاش، ودوخة أو دوار، وزيادة في معدل خفقان القلب، وتغيرات في السلوك أو المزاج، وصولًا إلى فقدان الوعي إن لم يُعالج سريعًا.

ويُنصح طبيًا في هذه الحالة، بتناول 15 غرامًا من السكر سريع الامتصاص (نحو ملعقة كبيرة من السكر/ العسل، أو نصف كوب عصير)، ثم تناول وجبة صغيرة بعد 15 دقيقة لمنع تكرار الهبوط، وهو الأمر غير المتاح بتاتًا لسكان قطاع غزة عمومًا، ومن بينهم مرضى السكري.

وفي ظل فقدان السكر من الأسواق، تعيش الطفلة لينا (6 سنوات) حالةً صحيةً مزرية، حين بدأت تفقد وزنها بشكل مرعب، وتحول جسدها الصغير إلى ما يشبه الهيكل العظمي. "الأمر لا يتعلق بالسكر وحدة، بل بكل أنواع الغذاء المناسبة لمرضى السكر. لا فاكهة ولا خضار ولا مغذيات ولا حتى مكملات تسد هذا العدم" تقول أمها.

وتخبرنا: "والدها يخاطر بحياته يوميًا في محاولة لجلب الإنسولين، وعندما يحصل عليه تواجهنا معضلة حفظه".

في ظل غياب الكهرباء، وغياب الثلاجات، لم تجد والدة لينا سوى بل حفاضات أطفال بالماء البارد، ولفّ أقلام الأنسولين داخلها "الوسيلة بدائية لكنها تحفظ الدواء فترةً أطول.. هذه الحفاضات صارت صندوق الطوارئ في معركة البقاء داخل خيمتي هذه" تعقب.

في مشهد آخر، استيقظت أمّ هادي على ارتجاف جسد طفلها الثماني، ووجدته غارقًا في العرق بسبب انخفاض السكر. لم يكن في الخيمة ما ينقذه. ركضت من خيمة لأخرى تبكي وتستجدي قطعة حلوى. استجابت إحدى الجارات وقدّمت نصف قطعة شوكولاتة. حين بلعها الصغير، عادت أنفاسه إلى الانتظام. ركعت أمه باكية تشكر الله، ثم قالت: "لا أريد أن أترك حياة ابني للحظ، لكنني لا أملك ثمن معلقة سكر".

السيدة أميمة حسن، بدورها، لم تكن تفارق حبة السكر حقيبتها. كانت تحرص عليها أكثر من حرصها على بطاقة هويتها الشخصية. هي مصابة بالسكري من النوع الثاني، وتعاني من نوبات فقدان توازن مفاجئة. تقول: "السكر هذا أصبح خلاصًا جسديًا. لا طعام، لا دواء، لا كهرباء. فقط قطعة أعيش بها بضع ساعات أخرى".

تنتقد السيدة الخمسينية ارتفاع أسعاره، وتقول: "لا أعرف كيف يمكنني أن أوفر ثمنه، ولماذا لا تفكر المؤسسات بنا حين تقدم الإغاثة؟ السكر مهم لنا في ظل انعدام الأدوية.. هنا السكر مسألة حياة أو موت".

وصرّح الدكتور محمد أبو عفش، مدير الإغاثة الطبيّة في شمال غزّة، في مايو الماضي، بأن أكثر من ٣٠٠٠ مريض بالسكري وارتفاع الضغط حُرموا من العلاج لثلاثة أشهر متتالية، نتيجة نفاد الأدوية.

وحذّر من انتشار مضاعفات خطيرة لعدم انتظام مرضى السكري بالدواء كالفشل الكلوي والعمى، مشددًا على ضرورة تأمين سلسلة تبريد فورية ولو بمولدات تعمل بالطاقة الشمسية، وتوفير فرق طبية ميدانية متنقلة توصل الأدوية إلى أماكن النزوح.

وفي تقرير طبي ميداني شمل 29 طفلًا مريضًا بالسكري من النوع الأول في غزة، وُثِّق أن (79.3%) من العائلات لا تحصل على أي رعاية طبية ملائمة، بينما (96.6%) من الأطفال يعانون من خيارات غذائية محدودة، وهو ما يضاعف الخطر.

ومع ارتفاع أسعار الخضروات الأساسية كالبندورة والخيار إلى 20 شيكلًا للحبة الواحدة، أصبح توفير الغذاء المتوازن رفاهية لا يملكها هؤلاء المرضى.

ورغم ما تُجمع عليه تقارير منظمة الصحة العالمية من أن الالتزام العلاجي لمرضى السكري في غزة انخفض من 85% إلى 45% فقط منذ بداية الحرب، ما زالت الاستجابة الدولية محدودة.

وقد دعت المنظمة في مايو 2025 إلى إدخال عاجل للأدوية، وتعزيز الدعم الغذائي الغني بالبروتين والألياف، وتوفير خدمات دعم نفسي، وتدريب الأسر على التعامل مع الطوارئ المنزلية.

وتتحدث الأخصائية النفسية منى ياسين، عن أن تكرار نوبات هبوط السكر، في ظل انعدام إمكانيات الإنقاذ السريع، يؤثر سلبًا على الحالة النفسية والسلوكية من نواحٍ عدة، حيث يضع المريض في قلق دائم من فقدان الوعي أو الموت، ويتسبب له بتقلبات مزاجية حادة، ونوبات هلع أو خوف، وضعف التركيز والذاكرة، وقد يقوده إلى عزلة مجتمعية.

وتقول: "الأطفال أكثر تأثرًا، وهنا لا بد من تدخل الأهل عبر الدعم النفسي السلوكي الذي يفيد في تقليل القلق المرتبط بالهبوط"، منبهةً إلى أهمية المتابعة الدائمة للمرضى جميعًا، ومراقبة علامات أجسادهم الحيوية، ومحاولة توفير سكر بسيط "غير معقد" للإنقاذ حال اللزوم".

البوابة 24