غزة/ البوابة 24- ملاك أبو عودة:
مع ازدياد حدة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة واستمرار القصف الليلي المتكرر، تحول النوم من حق إنساني طبيعي إلى حالة من الخوف والرعب المزمن ،لم يعد الليل ملاذًا للراحة، بل صار زمنًا قاتمًا يختبر فيه الغزيون قسوة الحرب بكل تفاصيلها.
يتعرّض المدنيون، من نساء وأطفال ورجال، لانتهاكات جسيمة لحقهم في الأمن والسلامة خلال ساعات الظلام، مما ولد أزمات نفسية وصحية عميقة انعكست على جميع نواحي حياتهم.
في هذا الواقع المرير، يتحول النوم فعل مقاومة يومية، يتطلب مجهودًا نفسيًا وجسديًا هائلًا، في مواجهة خوف متأصل من فقدان الحياة في لحظة غفلة.
لم تعد غزة فقط محاصرة بالأسلحة والدمار، بل محاصرة أيضًا بقلوب لا تعرف الطمأنينة، وأجساد لا تعرف الراحة.
في كلّ ليلة، تتكرّر الطقوس ذاتها في منازل غزة التي ما تزال قائمة على أطراف الخطر: الأطفال ينامون بثيابهم الكاملة، الأمهات يضعن الوثائق تحت الوسادة، ويُخيّم القلق في زوايا المكان.
تقول أم أحمد الكفارنة من بيت حانون وهي أم لأربعة أطفال نازحة في مدرسة وكالة بخانيونس : "أُراقب أطفالي وهم نائمون، وأسأل نفسي في كل مرة: إن انهار السقف علينا جميعا، من سأُنقِذ أولاً؟"
النساء في غزة لا يغمض لهن جفن بسهولة. يحرصن على اختيار أماكن بعيدة عن النوافذ، يُبقين الأبواب مواربة، ويضعن الأحذية عند المدخل تحسّبًا للهروب المفاجئ.
وعد وادي من الشجاعية، نازحة في جامعة الأقصى بخانيونس تصف المشهد قائلة: "قبل الحرب، كنت أخاف من الظلام، واليوم أخشى الضوء المفاجئ، لأنه يعني قصفًا جديدًا."
في زاوية أخرى من المشهد، ترفض الطفلة مريم عبد المحسن ذات العشرة أعوام، أن تنام وحدها، وتُصرّ على البقاء في حضن والدتها، وتُلحّ أن ينام أفراد الأسرة جميعًا في مكان واحد ،خشية أن يموت أحدهم بعيدًا عن الآخر.
في غزة، لم يعد السهر خيارًا، بل ضرورة يفرضها القلق على من تبقّى من الأهل. كثير من الآباء لا ينامون طوال الليل، يراقبون السماء كما لو أنهم حراس الليل، يستشعرون الخطر في كلّ صوت طائرة، وكلّ اهتزاز أرضي، وكلّ صمت مفاجئ.
يروي محمد ابو عودة وهو أب لطفلين نازح في احدىً مراكز الايواء ان ابنه البكر عصام أصيب بتأتأة شديدة ناجمة عن الخوف المتواصل من أصوات القصف التي تعصف بغزة ليلاً ونهاراً.
الرهبة والقلق اللذان يعاني منهما جعلاه عاجزًا عن النوم وحده، ليظل والده بجانبه طوال الليل، يحتضنه ويطمئنه حتى يغفو ببطء، ثم ينام هو بعده، منهكًا من قلقه على ابنه.
في منازل الغزيّين، السهر لم يعد بدافع الأرق، بل بدافع النجاة. فالحرب لا تطرق الأبواب، بل تهدمها فوق الرؤوس، دون إنذار.
ليست المخاوف في غزة مجرد هواجس، بل تجارب حيّة تُروى بألم، وتُحمل في ذاكرة الأحياء كندوب لا تُمحى. فقد استشهدت عائلات بأكملها تحت الركام، فيما كانت تغفو على أمل أن تشرق شمس اليوم التالي.
في منطقة حي الدرج بمدينة غزة قُصفت عائلة "منير الكحلوت "أثناء نومهم في أحد منازل الأقارب، بعد نزوحهم من منطقة أخرى. لم ينجُ أحد. تحوّل المنزل إلى حفرة في الأرض، وتحوّلت الأسماء إلى أرقام في قوائم الشهداء.
لم يعد النوم في غزة فعل راحة، بل غدا مشوبًا بالقلق، محاطًا بكل ما يشير إلى خطر وشيك. وتصف الطبيبة النفسية د. بثينة جبر النوم تحت القصف بأنه "فعل مقاومة"، موضحًا أن الإنسان حين ينام في ظل خطر مستمر، فإن جسده يبقى في حالة تأهّب، حتى أثناء مراحل النوم العميقة، ما يؤدي إلى اضطراب دائم في الإيقاع البيولوجي للجسم.
هذا القلق المتصاعد من الليل ليس مجرّد حالة عابرة، بل يؤسس، وفق ما تشرح د. بثينة جبر ، لاضطرابات طويلة الأمد كالأرق، نوبات الفزع الليلي، والكوابيس المتكررة. وتزداد حدّتها لدى الأطفال الذين يتكوّن وعيهم داخل بيئة يعتبر فيها "النوم" ظرفًا للموت، لا الراحة. يقول: "الطفل في غزة لا ينام ليحلم، بل يغمض عينيه وهو يحسب أنفاسه الأخيرة."
حالة "فرط التنبه" — وهي حالة يظل فيها الدماغ في حالة يقظة دائمة — أصبحت سمة سلوكية عامة. كثيرون ينامون بثياب الخروج، قرب الأبواب، أو يرسلون رسائل وداع قبل أن يغمضوا أعينهم. بات الدعاء جزءًا من طقوس النوم، لا يبدأ الغزيون ليلتهم بدونه، وكأنهم يستعدون للرحيل أكثر مما يستعدون لصباح جديد.
داخل الأسرة الواحدة، يُمارس النوم بالتناوب، يتناوب الأب مع الأم على السهر خشية أن تنهار الجدران فوق رؤوسهم. وبعضهم يضع هاتفه على صدره، لا لتفقد الأخبار فحسب، بل لالتقاط أي صوت إنذار أو ضوء إسعاف يمكن أن ينقذ أحدًا.
وتؤكد د. بثينة جبر أن هذا الحرمان المزمن من النوم يؤدي إلى انهيار نفسي تدريجي، يتجلى في ضعف التركيز، اضطرابات المزاج، ضعف الجهاز المناعي، ونوبات هلع مفاجئة. أما لدى الأطفال، فالأثر أعمق. "بات بعض الأطفال يصرخون قبل النوم، أو يرفضونه تمامًا، وبعضهم لا يستغرق في النوم إلا بعد أن يتأكد أن أحد أفراد العائلة مستيقظ إلى جانبه."
في غزة، لم يعد النوم ملاذاً للراحة، بل صار معركة مستمرة بين الحياة والموت. يتسلل القلق إلى الأحلام، ويقف الرعب حارساً على أبواب النوم، فلا يغفو الإنسان إلا وعيناه مفتوحتان على هول الغد.
ينبض القلب بين أصداء الانفجارات وصمت الساعات المميتة، حيث لم يعد الليل مجرد ظلام، بل ساحة معركة تهشم الطمأنينة، تسلب الطفولة، وتقتل الحلم في مهدِه.