كيف دمرت الحرب بيئة لا تملك صوتا؟

بقلم: نيفين اسليم

غزة تختنق بصمت: كيف دمرت الحرب بيئة لا تملك صوتا؟
لا تحتاج غزة إلى مزيد من القنابل لتدميرها، فالحرب المستمرة منذ شهور لم تكتف بحصد الأرواح بل امتدت يدها الطويلة لتخنق الطبيعة وتكتم أنفاس البيئة، وتحول كل زاوية في هذا الشريط الساحلي الصغير إلى ركام سام يتنفسه الإنسان ويبتلعه التراب غزة اليوم ليست فقط جريحاً إنسانياً بل جرحاً بيئياً غائراً لا تراه الكاميرات لكنه ينزف بصمت  
فمع كل انفجار لا تقتل فقط عائلة كانت تختبئ في بيتها، بل يقتل الهواء النقي الذي كان يوماً ما يغلف هذا المكان ومع كل صاروخ يهدم مبنى يهدم معه نظام صرف صحي أو خزان مياه أو شجرة كانت تشهد على الحياة إنها حرب على كل شيء على الإنسان وعلى ما تبقى له من بيئة تحميه
الماء ملوث البحر مسموم والهواء يحمل روائح الموت
في غزة تحول البحر من واجهة تنفس نادرة إلى مستودع للنفايات آلاف الأمتار المكعبة من مياه الصرف الصحي غير المعالجة تضخ يومياً إلى الشاطئ نتيجة توقف محطات المعالجة بفعل القصف وانقطاع الكهرباءو تحول الشاطئ إلى بيئة موبوءة لا تصلح لا للسباحة ولا للصيد بل وحتى هواؤه بات محملاً بروائح كريهة وغازات سامة
أما المياه الجوفية التي يعتمد عليها غالبية السكان فقد تسربت إليها النفايات الصناعية ومخلفات الحرب بما في ذلك المعادن الثقيلة من الذخائر تحاليل مختبرية أشارت إلى ارتفاع تركيز النترات إلى مستويات تفوق المعايير العالمية، ما يجعل كل رشفة ماء مخاطرة جديدة على صحة الأطفال والحوامل والمسنين
الهواء لم يعد للتنفس بل للقتل البطيء الأجواء في غزة ليست صافية كما تبدو في الصور الفضائية كل نفس هنا يحتوي على جزيئات الغبار الناتج عن الانفجارات وذرات الفسفور الأبيض وآثار المواد الكيميائية المستخدمة في القنابل. هذه الملوثات الدقيقة تسكن الرئتين وتضعف الجهاز التنفسي، وتزيد من نسب الإصابة بالأمراض المزمنة مثل الربو وسرطان الرئة. لا توجد في غزة أجهزة لرصد جودة الهواء ولا مختبرات لقياس أثر ما يجري، كل ما هنالك هو أطفال يختنقون بصمت، وشيوخ يسعلون بلا علاج
الزراعة تحت النار والتربة تئن، الحرب لا تقتل الناس فقط بل تقتل الحقول أيضاً، مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية في قطاع غزة دمرت بفعل القصف، وجرفت بالقوة أو تركت فريسة للحرائق. البيوت البلاستيكية أُبيدت، ومزارع الزيتون والحمضيات حرقت، والتربة امتلأت ببقايا المتفجرات وشظايا الصواريخ. المزارع الفلسطيني لم يعد يحسب حساب الربح أو الخسارة، بل يحاول فقط أن ينجو بحياته من أرض كانت بالأمس مصدر رزقه ، التربة التي كانت تنبت القمح والبصل والطماطم والبطاطا باتت ملوثة بمكونات لا ترى لكنها تقتل الزراعة من الجذور
جبل من الأنقاض يحمل سموماً لا تحصى. تقدر كمية الأنقاض الناتجة عن الحرب الأخيرة بأكثر من 50 مليون طن. هذه ليست مجرد ركام حجري ، بل مخلوط قاتل من الإسمنت والزجاج والرصاص ومواد سامة أخرى ، هذه النفايات تلوث التربة والمياه، وتنتشر منها أبخرة خطيرة عند اشتعالها أو تحللها ، الجهات المحلية تفتقر إلى أي معدات أو خبرات لإزالة هذه النفايات بطريقة آمنة، وما يزال منها يرمى عشوائياً في مناطق مفتوحة، مما يحولها إلى بؤر تلوث جديدة بدلاً من حلول بيئية
الحيوانات تختفيوالطيور تهاجر  من السماء. في زمن الحرب لا وقت لمراقبة الطبيعة، لكن الواقع يظهر أن عدداً كبيراً من أنواع الطيور توقفت عن الهجرة عبر غزة. الحيوانات البرية إما قتلت أو هربت ، والمحميات الطبيعية التي كانت تأوي بقايا الحياة البرية تضررت بشكل بالغ ، غزة لم تفقد أبناءها فقط بل فقدت كائناتها الصامتة التي لا تعرف الحرب لكنها تموت بسببها
أوبئة صامتة تهدد السكان ، مع انهيار شبكات الصرف الصحي وتراكم القمامة وتلوث المياه ، ارتفعت نسب الإصابة بأمراض الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي والتهابات الكبد والكوليرا بمراكز الإيواء ، التي يفترض أن توفر الحماية للنازحين، تحولت إلى بؤر لانتشار العدوى في ظل انعدام النظافة وصعوبة توفير المياه الصالحة للاستخدام ، المستشفيات مدمرة أو غير قادرة على استقبال الحالات ، والدواء نادر والتشخيص البيئي شبه معدوم ، النتيجة: بيئة مريضة تنبت أمراضاً لا علاج لها في الوقت الراهن
كارثة بصمت عالمي وتجاهل دولي مخجل ، وسط كل هذا الخراب تبقى البيئة في غزة الضحية التي لا تجد من يدافع عنها ولا تدرج في تقارير الحرب، ولا تخصص لها مؤتمرات ولا فرق  توعوية  أو المسعفين ، المجتمع الدولي يتحدث عن إعادة الإعمار ، عن فتح المعابر، عن وقف إطلاق النار، لكن من يتحدث عن تنظيف الأرض وتطهير المياه وإزالة المواد السامة من الهواء؟ من يحاسب على جريمة "القتل البيئي" التي ترتكب كل يوم؟ وأين العدالة حين يحرم الشعب من حقه في بيئة سليمة وهو أحد الحقوق الأساسية للإنسان؟
بالنهاية لا حياة في بيئة ميتة، إذا كانت الحرب قد قتلت البشر فإنها أيضاً قتلت عناصر الحياة التي تضمن بقاءهم ، البيئة ليست ترفاً بل إنها حق وركيزة أساسية لأي مستقبل. وإذا أرادت غزة أن تنهض من جديد فلا بد أن تبدأ بإعادة الحياة إلى بيئتها: إلى الأرض التي تحتاج تنقية ، والماء الذي يحتاج تطهيراً ، والهواء الذي يحتاج أن يغسل من رماد الحرب
غزة تختنق بصمت فهل آن الأوان أن يسمع صوت البيئة قبل أن يصبح الصمت هو اللغة الوحيدة التي تنطق بها الحياة هناك؟

البوابة 24