غزة/ البوابة 24- صفاء كمال:
في خيمة مهترئة وسط تجمعٍ للنازحين في مواصي خان يونس جنوبي قطاع غزة، جلست "ليان" البالغة من العمر عامين وأربعة أشهر، تُقلب بيدها شيئًا يشبه "الدمية"، صنعتها لها أمها للتو من بقايا قماشٍ باهت، وحَشَتها بقطن وسادةٍ قديمة.
كانت الطفلة تنظر إلى دميتها كما لو أنها كنزٌ غريب. لم تشاهد ليان "عروسةً" من قبل، كما لم تعرف معنى الحياة إلا داخل هذه الخيمة. لم تعرف معنى أن تفتح عينيها صباحًا على سقفٍ ملوّن، ولا كيف يُضاء المصباح بزر. لم تلمس ماءً ينساب من صنبورٍ، ولم تمشِ على بلاطٍ باردٍ، ولم تعرف شكل بابٍ يُغلق ويُفتح. لم ترَ غسالةً تدور، ولا ثلاجةً تأكل منها "الآيس كريم".. بدأت خطواتها الأولى على الرمل، وصارت ذكرياتها كلها منوطةً بخيوط الخيمة.
جيلٌ كاملٌ ولد في غزة قبل الحرب بأسابيع أو أشهر، لكنه لم يعرف السلام ليوم. لم يختبر حضن بيت، ولا رائحة وجبة عائلية، ولا دفء قصة ما قبل النوم. بدأ عمره بالتفتح وسط صفير الطائرات، وانهمار القذائف، وصراخ الجوعى في صفوف المساعدات. في مرحلةٍ يُفترض أن يبدأ فيها الاكتشاف واللعب، كانت النجاة هي "المهارة الأولى" و"الأهم".
الأرض كعدو..
تخبرنا أمل توفيق، أن ابنتها، التي كانت رضيعة حين اندلعت الحرب، ما تزال حتى اليوم ترفض ارتداء الحذاء. "تمشي حافية على الرمل منذ عام ونصف، إنها تشعر بالراحة هكذا" تقول بحسرة.
أكثر اللحظات رسوخًا في ذاكرتها، كانت عند زيارة أختها في الشمال، بعد سريان وقف إطلاق النار الهش، حيث "دخلنا منزلًا فيه بلاط، فبدأت تبكي، التصقت بي، رفضت أن تمشي. كانت تنظر إلى الأرض كأنها عدُو، لم تعرفها بهذه الشاكلة من قبل".
وتتحدث هدى القرعان، عن طفلها الذي ولد قبل الحرب بأربعة أشهر، وكان عمره وقت وقف إطلاق النار في يناير سنة وثمانية أشهر تقريبًا. تقول: "أعطيته مرةً موزة فخاف منها وبكى. لم تستسغ يده ملمس قشرتها ولما أكلها كاد يتقيّأ".
قبل أشهر قليلة، كانت جارةٌ لها افتتحت مشروعًا للغسيل بطاقة شمسية متهالكة، بحيث تدير غسالتها لغسل ثياب النازحين مقابل مبلغٍ من المال. "أخذته معي مرة لأن كمية الغسيل عندي كانت كبيرة. لما رأى الغسالة تدور من الأعلى وأنا أحمله فتح عينيه وكأنه تلقى صفعة! خاف أن ينزل إلى الأرض. يومها سألتُ نفسي: كيف ستفعل إذا عدنا لحياتنا الطبيعية؟ كيف ستتأقلم مع أجهزة التكييف، والثلاجات ومكانس الكهرباء والحياة الحضرية؟".
حاجيات الأطفال
ويحكي محمد أبو مصبح عن ابنه الذي لم يعرف شيئًا عن حاجيات الأطفال: لا يعرف السكاكر، ولا الكاندي، ولا الكيك المزين بالكريما.
في مرةٍ، دعته شقيقته لعيد ميلاد ابنها، وطلبت منه جلب الأطفال. قالت إنها صنعت كعكة بدون بيض ولا حليب، وخبزتها على الحطب، وزينتها بالشوكولاته وبعض السكاكر الملونة.
يقول: "ابني ذو العامين وسبعة أشهر صُعِق. أتذكر شكل المفاجأة لما رأى كعكة مزينة لأول مرة، فتدمع عيني تلقائيًا! شكلها كان مبهرًا بالنسبة لطفلٍ أفضل ما تناوله من حلويات في ظل هذا الحصار "زلابيا" مرشوش عليها بعض السكر تصنعها له أمه من بقايا عجين الخبز".
أما غادة يوسف، الأم لثلاثة، فتحلم منذ زمن بأن تلبس ابنتها الصغيرة فساتين ملونة وتزين شعرها. لكن الحرب لم تترك لها سوى ملابس إخوتها الذكور. "حين أهداها أحدهم فستانًا، لم تفرح، بل بدت خائفة، كأنها لا تعرف هذا الشيء الغريب"، تقول بغصة. مشاعر الفرح باتت مربكة، غير مألوفة، وربما مقلقة لهؤلاء الصغار.
حالة عامة في خيام النازحين
ليست هذه قصصًا فردية. إنها مشاهد يومية تتكرر في كل مخيم نزوح. أحد الآباء يقول إن ابنه لا يعرف معنى "مصروف"، ولا طعم البسكويت أو الحلوى، ولا فكرة "اللعب مع أطفال آخرين". لم يرَ يومًا حديقة ألعاب، ولم يلمس أرجوحة. وإذا خرج من الخيمة، فإن الرعب ينتظره.
في زيارات ميدانية قامت بها مؤسسات إنسانية، تحدثت أمهات عن أطفال يخافون من فكرة صنبور الماء، أو يصمتون فجأة عند رؤية شيء جديد. أحد الأطفال، بحسب الأخصائية ريم الزين، انهار بالبكاء عندما شاهد لمبة تُضاء. وآخر لم يكن يعرف ما تعني كلمة "باب". الأطفال يرسمون فقط خيامًا ونيرانًا وسحبًا سوداء. هذا هو قاموسهم البصري الوحيد.
وتؤكد الأخصائية النفسية عبير حسين أن ما يعيشه هؤلاء الأطفال ليس مجرد فقر أو حرمان، بل انهيار في البناء النفسي الأولي للطفل. "الطفل لا يبني ذاكرته بصور، بل بشعور الأمان والاكتشاف"، تقول.
وتشرح أن الطفل الذي يخاف من موزة، أو يرفض البلاط، لا يعاني من غرابة الأطوار، بل من حرمانٍ جسيم في البيئة والمألوف. "حين تُولد في خيمة، وتمشي على الرمل، وتسمع القصف كل ليلة، فإنك تعيد برمجة دماغك على البقاء لا على اللعب".
تحذيرات من اضطرابات طويلة الأمد
النتائج لا تتوقف عند هذا الحد. تحذر عبير من اضطرابات طويلة الأمد: فقدان الثقة، تعلق مرضي، عزلة اجتماعية، صعوبات في التعلم. "هؤلاء لا يحتاجون فقط إلى إعادة إعمار المنازل، بل إلى ترميم طويل للروح".
في ورقة بحثية حديثة، كتب البروفيسور دانيل كوهين من جامعة كوبنهاغن أن الطفل الذي يُولد في بيئة متقلبة يطوّر أدوات نجاة بدل أدوات نمو. "يتكلم ليحذر، لا ليطلب. ينظر حوله ليهرب، لا ليلعب"، كتب في توصيف دقيق لأطفال غزة. ويضيف: "حين لا تعرف ماذا تعني غرفة، أو نافذة، أو حضن، فإنك لا تعرف من أين تبدأ".
وتؤكد منظمات مثل Save the Children وWar Child ، أن أطفال غزة يعانون من اضطرابات عميقة: كوابيس ليلية، تبول لا إرادي، سلوك عدواني أو انعزالي، انعدام في القدرة على التعبير، وحتى الخوف من الألعاب نفسها. إنهم لا يعرفون اللعب، لأنهم لا يعرفون الطفولة.
في إحدى الخيام، رسم طفلٌ في الثالثة بيتًا من القماش وخيمة سوداء، وسأل والدته: "متى نرجع إلى هذا البيت؟". لم يفهم بعد أن البيت الحقيقي لا يشبه الخيمة، وأن له جدرانًا، ومصباحًا، وربما شرفة. سألها أيضًا: "هل يوجد بيت فيه أرجوحة؟". أجابته وهي تخفي دمعتها: "فيه كل ما تحلم به، يا قلبي.. لكن ليس الآن". هذه ليست طفولة، بل تمرين على البقاء. وهؤلاء ليسوا مجرد ضحايا، بل جيل بلا بداية، وذاكرة نُسفت قبل أن تتكوّن.