بقلم محمد جمال صوالي مراقب للسياسات الدولية غزة – فلسطين
الشرق الأوسط يموج بالتحولات العاصفة، حيث يُعاد تشكيل الخرائط الجيوسياسية وتُنسج التحالفات على وقع المصالح المتقلبة، يقف الفلسطيني في عين العاصفة، متسائلاً بقلق وجودي عن مكانه في هذا النظام الإقليمي الجديد. لم تعد الصراعات تُرسم بخطوط واضحة بين عدو وصديق تقليدي، بل أصبحت تدار بمنطق "أمن الطاقة" و"الردع الإقليمي" و"الازدهار المشترك"، وهي مصطلحات تبدو في ظاهرها براقة، لكنها في جوهرها تعيد تعريف المنطقة على حساب الحقوق والثوابت الفلسطينية. لقد شهدت السنوات الأخيرة تسارعاً في وتيرة التطبيع العربي مع إسرائيل، والذي لم يعد مجرد علاقات دبلوماسية هادئة، بل تطور إلى تحالفات استراتيجية واقتصادية وأمنية عميقة. إن "اتفاقيات أبراهام" وما تلاها من تفاهمات، لم تكن مجرد اختراق إسرائيلي للعزلة العربية، بل كانت إعلاناً عن ميلاد شرق أوسط جديد، تُعرَّف فيه التهديدات بشكل مختلف. فبدلاً من أن تكون إسرائيل وسياساتها الاستيطانية هي الخطر المركزي، تم تصدير "التهديد الإيراني" كعدو مشترك، يستدعي توحيد الصفوف لمواجهته، وهو ما وفر الغطاء الأخلاقي والسياسي لدمج إسرائيل في المنظومة الأمنية الإقليمية. في هذا المشهد، يجد الفلسطيني نفسه معزولاً ومهمشاً. فبينما كانت القضية الفلسطينية لعقود طويلة هي البوصلة التي توجه السياسات الخارجية العربية، وشرطاً لأي علاقة مع إسرائيل، أصبحت اليوم بنداً ثانوياً على أجندة اللقاءات الإقليمية، يتم التعامل معه كملف إنساني يمكن إدارته بالمساعدات الاقتصادية، وليس كقضية تحرر وطني تتطلب حلاً سياسياً عادلاً. لقد تم تحويل الصراع من قضية "احتلال" يجب أن ينتهي، إلى "نزاع" يمكن التعايش معه وإدارته، بما يخدم استقرار التحالفات الجديدة. الأخطر من ذلك هو أن هذه التحالفات لا تهدف فقط إلى تطبيع وجود الاحتلال، بل إلى شرعنته. فعندما تتحول إسرائيل إلى شريك استراتيجي في مجالات التكنولوجيا والمياه والأمن السيبراني، فإن هذا التعاون يخلق شبكة مصالح عميقة تجعل من الصعب على أي طرف عربي اتخاذ موقف حقيقي ضاغط لوقف الانتهاكات الإسرائيلية. فكيف يمكن لدولة تستورد تكنولوجيا حيوية من إسرائيل أن تدين بفعالية بناء مستوطنة جديدة أو هدم منزل في القدس؟ أمام هذا الواقع، يقف الفلسطيني أمام خيارات صعبة. فالاعتماد على المحيط العربي التقليدي لم يعد كافياً، والمجتمع الدولي يبدو منشغلاً بأزماته الخاصة، من أوكرانيا إلى تايوان. هذا الوضع يفرض على الفلسطينيين، قيادةً وشعباً، إعادة التفكير في استراتيجياتهم. لم يعد من المجدي انتظار صحوة ضمير إقليمية أو دولية، بل أصبح من الضروري بناء مصادر قوة ذاتية، تبدأ من إنهاء الانقسام الداخلي وتحقيق المصالحة الوطنية، باعتبارها شرطاً أساسياً لأي مواجهة سياسية فعالة. إن الموقف الفلسطيني اليوم لا يجب أن يكون موقف الرفض السلبي أو الانعزال، بل موقف الاشتباك النقدي مع هذه التحولات. يجب فضح السردية التي تسوقها هذه التحالفات، والتي تدعي أنها تحمل "السلام والازدهار" للمنطقة، بينما هي في الحقيقة تبني سلاماً اقتصادياً وأمنياً على أنقاض الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني. إن الرسالة الفلسطينية للعالم وللمحيط العربي يجب أن تكون واضحة: لا يمكن لأي نظام إقليمي أن يحقق استقراراً حقيقياً ودائماً طالما أنه يتجاهل جوهر الصراع، وهو احتلال قائم وحقوق شعب مسلوبة. من غزة، حيث تختلط الأنقاض بالأمل، نوجّه نداءً إلى الضمير العربي: لا تجعلوا فلسطين ضحية التحالفات العابرة والمصالح المؤقتة. إن استقرار الشرق الأوسط لا يُبنى على تجاهل الاحتلال، ولا على تهميش شعب يناضل من أجل الحرية والكرامة. فلسطين ليست عبئًا على النظام الإقليمي، بل بوصلته الأخلاقية. فلتكن التحالفات الجديدة فرصة لإعادة الاعتبار للحق، لا لتكريس الظلم. إننا لا نطلب صدقة سياسية، بل شراكة في العدالة، ووقفة صادقة تعيد للمنطقة معناها الإنساني قبل أن تفقد روحها في زحمة المصالح.