"بالروح بالدم نفديك يا غزة"... بين رمزية التظاهر وتغييب الحقيقة الاستراتيجية

 بقلم: المحامي علي أبو حبلة

– في قلب تل أبيب، عاصمة الدولة القائمة بالاحتلال، علت أصوات المتظاهرين أمام السفارة المصرية مرددة شعار: "بالروح بالدم نفديك يا غزة"، في مشهد فريد شارك فيه عدد من الرموز الوطنية في الداخل الفلسطيني، وعلى رأسهم الشيخ رائد صلاح والشيخ كمال الخطيب. ورغم أهمية الحدث من حيث توقيته ومكانه ورسائله الإنسانية، إلا أنه فتح الباب أمام نقاش استراتيجي أوسع: هل نوجّه الغضب الشعبي في الاتجاه الصحيح؟ ومن هو المسؤول الحقيقي عن تجويع غزة؟ أولاً: من يغذي المجاعة في غزة؟ منذ أكثر من اثني وعشرون شهرا، تتعرض غزة لحرب إبادة غير مسبوقة في التاريخ الحديث، وفق توصيف الأمين العام للأمم المتحدة وتقارير وكالات الإغاثة الدولية. وفي خضم القصف والتجويع ومنع المساعدات، عمدت إسرائيل – عبر تحالف حكومي يقوده بنيامين نتنياهو ويضم شخصيات متطرفة كإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش – إلى تسليح الحصار واستخدام الغذاء كسلاح ضغط، في انتهاك صارخ لـ اتفاقية جنيف الرابعة (1949)، ولا سيما المادة 55 التي تلزم قوة الاحتلال بضمان الإمدادات الغذائية للسكان. ولم تكتف حكومة الاحتلال بالتجويع، بل منعت دخول القوافل الإنسانية، وقصفت المستودعات، واستهدفت خطوط المياه والطاقة. وكل ذلك جرى بعلم وتواطؤ أو صمت دولي، وبدعم مباشر من قوى غربية توازيها المسؤولية الأخلاقية والقانونية. ثانياً: مصر بين موقع الجغرافيا ومصيدة السياسة إنّ مصر، الدولة المركزية في الإقليم، تتحمل عبئاً ثقيلاً ومعقداً في ملف غزة. فهي الجار الوحيد الذي يملك معبراً لا يخضع للاحتلال، وهي الدولة العربية الأهم التي تشكل رئة استراتيجية للشعب الفلسطيني في القطاع. وقد لعبت القاهرة، تاريخيًا، أدوارًا محورية في دعم القضية الفلسطينية، ودفعت ثمن ذلك في أكثر من محطة. لكنّ هناك شعوراً متنامياً في الأوساط الفلسطينية بأن الموقف المصري الرسمي يتسم بالحذر وربما التقصير في بعض الجوانب، خاصة فيما يتعلق بإدخال المساعدات أو اتخاذ مواقف حاسمة ضد الاحتلال. وبينما يمكن تفهُّم الضغوط الدولية التي تمارس على مصر، إلا أن التاريخ لا يرحم، والأخوة لا تقاس بالحسابات الدبلوماسية فقط. مع ذلك، فإن تحميل مصر كامل المسؤولية عن مأساة غزة فيه تبسيط مخلّ ومجافٍ للواقع. فالقاهرة، رغم كل ما يُقال، لم تكن يوماً شريكًا في مشروع الاحتلال، بل ظلت رقماً صعبًا في معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، وإن اختلفت أدواتها اليوم عن الأمس. ثالثاً: التظاهر في الاتجاه الخطأ... هل يخدم الغاية؟ إنّ اختيار السفارة المصرية في تل أبيب مكانًا للتظاهر، قد يكون نابعًا من اعتبارات رمزية، لكنه سياسيًا يطرح علامات استفهام كبيرة. فهل المطلوب تحميل القاهرة مسؤولية المجاعة؟ وهل نُعفي بذلك الاحتلال من جرائمه المباشرة؟ وهل يليق أن تكون رسالة الشيخ رائد صلاح، وهو القامة التي واجه السجون والتهديدات الإسرائيلية، موجهة للدولة العربية بدلاً من كيان الاحتلال الذي يفرض الحصار ويقتل الأطفال؟ ولماذا سمحت حكومة الاحتلال لمنظمي التظاهرة التظاهر أمام السفارة المصرية في تل ابيب وشرطتها بقيادة بن غفير تقنع التظاهرات وهو ما يحمل الكثير من التساؤلات الاحتجاج السياسي يجب أن يكون واعيًا ومدروسًا. وعندما يُنقل الغضب الشعبي من مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية إلى سفارة عربية، فإن الرسالة تُحرَّف عن مسارها، وتصبح ذريعة للعدو للادعاء بأن "الحصار عربي"، في حين أن أرقام الأمم المتحدة وتقارير هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية تُجمِع على أن إسرائيل هي المسؤول الأول، ومرتكبة الجرائم الأشد. رابعاً: الأبعاد الخفية... نحو مشروع التهجير القسري لم تعد خطة تهجير سكان غزة مجرد "تخوفات"، بل تحوّلت إلى خطة موثّقة ضمن وثائق رسمية وتسريبات من مراكز أبحاث إسرائيلية. التجويع هو المرحلة الأولى من مشروع "إفراغ غزة"، تمهيدًا لإنشاء "منطقة آمنة" خالية من الفلسطينيين على حدود مصر، وهو ما تعمل حكومة نتنياهو على فرضه كأمر واقع، مستفيدة من تشتت الموقف العربي والدولي. كل تحرك سياسي أو شعبي يجب أن يكون في إطار إجهاض هذه الخطة، لا تسويقها عن قصد أو دون قصد من خلال تشتيت المسؤوليات. خامساً: الحاجة لاستراتيجية خطاب جديدة نحن اليوم أمام مرحلة حرجة تتطلب إعادة تشكيل الخطاب الفلسطيني الشعبي والسياسي والديني. على القادة الرمزيين، مثل الشيخ رائد صلاح وقيادات الداخل، أن يُعيدوا ترتيب أولويات خطابهم، بحيث يكون العدو واضحًا، والهدف محددًا، والشعار موجهًا في الاتجاه الصحيح. "بالروح بالدم نفديك يا غزة"، شعار لا يُستهلك فقط في الميادين، بل يجب أن يُترجم إلى فعل سياسي موجّه ضد الاحتلال، لا ضد الشقيق الذي قد تختلف معه، لكن لا يمكن مساواته مع العدو. ونخلص إلى القول إن غزة لا تحتاج فقط إلى دموع... بل إلى وضوح في الموقف التاريخ لا يرحم، والشعوب لا تغفر التواطؤ أو الغفلة. وعلى كل من يحمل شرف تمثيل الشعب، أن يحرص على أن تكون كلماته وسلوكياته منسجمة مع التحديات الوجودية التي تواجهنا. فالمعركة في غزة ليست فقط عسكرية أو إنسانية، بل هي معركة سردية ورواية ومسؤولية سياسية وقانونية. فليكن صوتنا واضحًا: العدو هو الاحتلال، ومن يجوع غزه هو من يحاصر، والمحاسبة يجب أن تبدأ من تل أبيب لا من القاهرة.؟

البوابة 24