بقلم: رانية مرجية
1. العنوان كبوابة كونية ليس من السهل أن يُطلق الشاعر على عمله عنوانًا يتجاوز حدود الزمان والمكان، لكن إياد شماسنة يفعل ذلك ببراعة في "سِدرَة المُشتهى". إننا أمام تركيب لغوي مشبع بالدلالة الصوفية، إذ تحيل "السِّدرة" إلى "سِدرة المنتهى"، المحطة القصوى في رحلة المعراج النبوي، بينما تكسبها "المشتهى" دفئًا إنسانيًا، فتربط السمو الروحي بحرارة الرغبة الأرضية. العنوان، بهذا المعنى، ليس لافتة خارجية، بل هو ميثاق تأويلي يوجّه القارئ نحو قراءة النصوص باعتبارها رحلة كونية، تمتد من العاطفي الحميم إلى الرمزي المقدس. 2. هيكل الديوان ورحلة المعنى الديوان يتوزع على نصوص تتفاوت في الطول والكثافة، لكنها تشترك في نسيجها العاطفي والفكري. يمكن تقسيمه موضوعيًا إلى ثلاثة مسارات متداخلة: المسار الوطني المقاوم: حيث تتجلى القدس وفلسطين كأيقونة للهوية والصمود، تحضر المدن والأماكن كما لو كانت شخصيات تنبض بالحياة. المسار الصوفي الفلسفي: فيه يتحول النص إلى معراج لغوي، حيث يبحث الشاعر عن الحقيقة في الماوراء، مستخدمًا مصطلحات "المقام"، "المحراب"، "المعراج"، "السِّر". المسار الوجداني الغزلي: هنا يتجسد الحب كقوة مقاومة، والمرأة كرمز للأرض والأمل، وكشريك في الحلم والنزيف معًا. 3. لغة تسكن بين النص المقدس والأسطورة إياد شماسنة يبني لغته على تداخل المرجعيات: التناص القرآني والنبوي: يقتبس ويحاور النصوص المقدسة، لكن لا يكررها، بل يعيد تأويلها في سياق معاصر. الأسطورة والتاريخ: من بلقيس إلى الهدهد، ومن كربلاء إلى معابد المحاربين، تتقاطع الرموز في نسيج النص. اليومي المعيش: على الرغم من قدسية المعاني، فإن الشاعر لا يقطع خيطه مع الواقع، بل يُسقط الرموز الكبرى على تفاصيل اللحظة الفلسطينية. هذه اللغة ليست للزينة البلاغية، بل لتوليد طبقات من المعنى، تجعل النصوص قابلة للقراءة في مستويات متعددة. 4. الرموز الكبرى في الديوان لا يمكن قراءة "سِدرَة المُشتهى" دون التوقف عند شبكة الرموز التي ينسجها الشاعر بعناية: القدس: ليست جغرافيا فقط، بل معراجٌ ومعشوقة، تُحاصر وتُفتدى، وتبقى منارة المعنى. الحصان: رمز الفروسية والانطلاق نحو الحرية، أحيانًا جريح وأحيانًا جامح. الهدهد: حامل الرسالة وبشير الغيب، يستحضر إرث النبوة في زمن التيه. النار والمطر: النار للتطهير والدم، والمطر للبعث والخصب. المرأة: تتجاوز كونها موضوع غزلي إلى كونها تجسيدًا للوطن، وللاستمرار ضد الفناء. 5. البنية الإيقاعية والأسلوبية يتنقل الشاعر بين: النثر الشعري: حيث تتدفق الصور والمعاني دون قيود الوزن، مما يمنحه حرية في التشكيل. القصيدة الموزونة: حين يحتاج الإيقاع إلى قوة الجرس والتكرار، فيستدعي التفعيلة أو البحر ليضبط النبرة. التكرار والتوازي: أدوات موسيقية داخلية تمنح النصوص إيقاعًا روحيًا، كالترديد في حلقات الذكر الصوفي. 6. جدلية الحرب والحب هذه الثنائية تمثل العمود الفقري للديوان. لا يقدّم الشاعر الحب كمهرب من الحرب، بل كوجه آخر لها. القبلة هنا ليست نقيض الرصاصة، بل هي فعل مقاومة. والحرب ليست غيابًا للحب، بل امتحان له. هذا المزج يخلق حالة شعرية نادرة، حيث يتحول الحميمي إلى سياسي، والوطني إلى وجداني. 7. البنية الشعورية يتأرجح المزاج العام بين الحنين والفقد من جهة، والتمرد والأمل من جهة أخرى. في لحظات، نشعر أن النصوص هي مناجاة صوفية، وفي لحظات أخرى، هي هتاف في ساحة معركة. هذا التذبذب العاطفي ليس تناقضًا، بل هو انعكاس لحالة الفلسطيني المعاصر، العالق بين الذاكرة والحلم. 8. القيمة الإبداعية والتميّز "سِدرَة المُشتهى" يقدّم إضافة نوعية للشعر العربي المعاصر لأنه: يمزج بوعي بين التراث العربي واللغة الحديثة. يخلق نصًا متعدد الطبقات قابلًا للقراءة في السياق الفلسطيني والإنساني معًا. يحقق توازنًا بين جمالية الصورة وقوة الرسالة. يمنح القارئ تجربة حسية وفكرية وروحية في آن واحد. 9. الخاتمة: القصيدة كمعراج وملاذ في النهاية، يمكن القول إن هذا الديوان هو أكثر من مجموعة نصوص شعرية؛ إنه معراج شخصي وجماعي، حيث يصعد الشاعر من تفاصيل الأرض إلى رحابة السماء، ويعود محملًا بما يراه خلاصًا: أن الحب والمقاومة وجهان لعملة واحدة، وأن الكلمة قادرة على أن تكون رصاصة ووردة في آن. "سِدرَة المُشتهى" بهذا المعنى هو دعوة لأن نقرأ الشعر كفعل حياة، لا كترف لغوي، وكوصية بأن نرفع الحلم إلى مقام السِّدرة، حتى في زمن الانكسارات.