غزة والزمن السياسي المهدور

بقلم: د. إياد أبو الهنود 

في حياة الشعوب، لا يُقاس الزمن بعدد السنين، بل بما يُنجز خلالها من حماية للحقوق وصون للكرامة وبناء للمستقبل؛ والزمن السياسي، بخاصة، ليس رفاهية يمكن إضاعتها، بل هو لحظة اختبار حقيقية لقوة الإرادة ونضج القيادة، وفي الحالة الفلسطينية، أصبح هذا الزمن مكلفًا إلى حد المأساة، لأن كل يوم يمضي يعني مزيدًا من الدماء المهدورة، والبيوت المدمرة، والحقوق المؤجلة.

في ضوء هذه الرؤية، لا بد من العودة إلى الجذر الإيماني العميق الذي تُشير إليه الآية الكريمة: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، فهي ليست مجرد عبارة تُتلى في لحظات المصاب، بل إعلان عن هوية الإنسان ومصيره ومرجعيته، وتذكير بأنه مملوك لله، راجع إليه، محاسب على ما فعل وما أهمل.

وعلى هذا الأساس، فإن كل موقف يتخذه الإنسان، وكل وقت يهدره، وكل كلمة ينطق بها، لها تبعات، وإذا كان هذا المعنى ينطبق على الأفراد في حياتهم الشخصية، فإنه يصبح أكثر ثقلًا حين ينتقل إلى القرار الجمعي والزمن السياسي العام، إذ يغدو القائد أو المسؤول مؤتمنًا لا على وقته وحده، بل على وقت شعب بأكمله، مسؤولًا عن عدم تبديده في خلافات حزبية أو تصفية حسابات أو انتظار معجزات لا تأتي.

اليوم، يعيش الفلسطينيون حرب إبادة مكتملة الأركان: قصف لا يفرّق بين طفل وامرأة وشيخ وشاب، وحصار يقطع أنفاس الحياة، ومجازر تُرتكب على مرأى العالم، ومع ذلك، يظل المشهد السياسي الفلسطيني أسير الانقسام وخطاب المزايدات، وإدارة الصراع بأسلوب يستنزف المقدرات أكثر مما يحمي ما تبقى من الأرض والإنسان.

وفي هذا السياق، تتحمل القوى المسيطرة على غزة، في الداخل والخارج، مسؤولية كبرى في إدارة الميدان والمفاوضات، لأن أي قرار خاطئ أو متأخر يترجم مباشرة إلى مزيد من الأرواح المهدورة، وإلى فرص تضيع ربما لا تعود، وهنا يصبح الزمن السياسي ليس مجرد إطار للعمل، بل ميدانًا تُقاس فيه القرارات بالدم والمعاناة.

تجربة اليابان بعد الحرب العالمية الثانية تحمل درسًا بليغًا في هذا المعنى، حين سقطت هيروشيما وناغازاكي تحت القصف النووي، وجد الإمبراطور هيروهيتو نفسه أمام خيار مصيري: فناء الدولة أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وفي سبتمبر 1945، اختارت اليابان إنهاء الحرب، لا استسلامًا لليأس، بل حفاظًا على ما تبقى من مقومات البقاء، واستثمارًا في الزمن السياسي لصياغة مستقبل جديد، احتفظ اليابانيون بحق تقرير مصيرهم التعليمي والثقافي، وأدركوا أن بناء العقول هو المقدمة الحقيقية لبناء الدولة.

وعلى الرغم من بقائهم تحت الاحتلال الأميركي لسنوات، لم يهدروا الوقت في اجترار الهزيمة أو تعليق مصيرهم على المجهول، كان هناك وعي بأن الزمن هو رأس المال الأهم، وأن كل يوم بلا إصلاح للتعليم أو تحديث للإدارة أو نهوض بالصناعة، هو خسارة لا تُعوّض، وفي غضون عقود، تحولت اليابان من دولة مدمرة إلى قوة اقتصادية وعلمية عالمية، لأن قيادتها وشعبها قرروا أن ما بعد الكارثة يمكن أن يكون بداية النهوض لا نهايته.

هنا يلتقي الدرس الياباني بالحالة الفلسطينية؛ فكما أدرك اليابانيون أن الهزيمة العسكرية ليست نهاية التاريخ، بل بداية معركة جديدة لكسب المستقبل، فإن الفلسطينيين اليوم أمام لحظة مماثلة: اتخاذ القرار المناسب لوقف المقتلة في غزة، ثم تصليب الجبهة الداخلية، وتوحيد الصف تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ويتطلب ذلك أن يتصدر المشهد قيادات وطنية خالصة لا تحمل أجندات خارجية، تعلي من كرامة المواطن وقيمة الوطن، وتتعامل مع الزمن السياسي كأمانة ثقيلة لا تحتمل المناورة أو الانتظار، على أن تقترن إدارته بفهم عميق للبيئة الدولية المحيطة، حيث تحكم مواقف القوى الكبرى والمنظمات الأممية اعتبارات المصالح وتوازنات القوة أكثر مما تحكمها المبادئ المعلنة للعدالة وحقوق الإنسان، وفي هذا الواقع، يصبح امتلاك خطاب سياسي واقعي وموحد ضرورة ملحّة، لتحويل ما هو متاح من تضامن دولي وإقليمي إلى أدوات ضغط عملية، بدل الاكتفاء بردود الفعل التقليدية التي لم تعد تغيّر في موازين القوى أو في مسار الأحداث.

إن إهدار الزمن السياسي في هذه اللحظة ليس مجرد خطأ، بل جريمة مضاعفة، فالتاريخ لن يسامح، والضمير لن ينسى، والله لن يغفل، والمساءلة الحقيقية تبدأ حين يدرك الجميع أن البقاء في المشهد السياسي يجب أن يُبنى على الإنجاز لا على التاريخ، وعلى حماية الناس لا على مهارة إلقاء الخطب.

الخروج من المأزق يتطلب بدائل واقعية: أدوات ضغط حقيقية على الاحتلال والمجتمع الدولي، ومشروع سياسي واضح يحدد ما يمكن تحقيقه الآن وما يُؤجَّل، بعيدًا عن أوهام “الكل أو لا شيء” التي أهدرت عقودًا؛ وعندها، يصبح من يهدر الزمن مكشوفًا أمام شعبه، ويصبح رحيله شرطًا للبقاء.

فالزمن لا ينتظر أحدًا، والشعب الفلسطيني قد دفع من دمائه ما يكفي لتذكيرنا أن السياسة ليست لعبة ولا مجالًا للتجريب، بل مسؤولية أمام الله، وأمانة أمام الضمير، وحساب أمام التاريخ، ومن لا يفهم ذلك اليوم، سيفهمه غدًا، ولكن بعد فوات الأوان.

البوابة 24