لم تكُن "حَنان" مريضة.. ماتت "جائعة"!

حنان عروق مع والدها
حنان عروق مع والدها

غزة/ شيرين خليفة

"لم تكن ابنتي تعاني من أي مرض. المجاعة جعلتها تفقد وزنها وتضعف، وتراجعت صحتها حتى فارقت الحياة". بهذه الكلمات بدأت إيناس عروق (30 عامًا) رواية الحكاية. "طفلتي حنان ظلت تعاني تبعات سوء التغذية، حتى توفيت"، تقول باكية.

وتزيد بصوتٍ يختنق، بينما تغالب دموعها المنهمرة: "طفلة عمرها 12 عامًا. لو عولجت مبكرًا، لكانت بيننا الآن".

منذ بداية آذار/ مارس 2025م، بدأت حنان تعاني من ضعف شديد. كانت تنام كثيرًا، بينما وزنها انخفض بشكلٍ ملحوظ. هذه المجاعة هي الثانية التي تعيشها الطفلة، داخل بيتها في حي الشيخ رضوان، غربي مدينة غزة، حيث رفضت عائلتها النزوح جنوبًا منذ بدأت الحرب في السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023م.

تخبرنا أمها: "كان وزنها 29 كيلوجرامًا، وعندما توفيت كان 19 فقط. فقدت أربعة كيلوجرامات في أسبوعها الأخير. ركضنا بها إلى عيادة الشيخ رضوان، وقالوا إنها تعاني من سوء تغذية، دون أن يصفوا لها أي مقويات أو فيتامينات. اشتريت لها على حسابي بضعة باكيتات من المكمل الغذائي، وكانت أسعاره فلكية".

تدهورت حالتها أكثر، ولم تعد تقوى على الوقوف. أسرع الوالدان إلى مستشفى أصدقاء المريض، لكن الرد كان نفسه: "سوء تغذية"، دون متابعة جدية. نقلوها بعد ذلك إلى مستشفى الصحابة، ثم الحلو الدولي، دون أن تحظى بأي اهتمام.
تتابع الأم: "كنت مستعدة لبيع كل ما أملك من أجل علاجها. كانت نشيطة، تساعدني في أعمال المنزل، وتهتم بإخوتها الثلاثة، وتواظب على الذهاب إلى الخيمة التعليمية، وتحب الدراسة".

عادت بها العائلة إلى مستشفى الصحابة في غزة، وهناك تنبّه الطبيب لحالتها، وكان تحليل الدم يُظهر أن الهيموغلوبين 7.7، فكتب لها تحويلة إلى مستشفى الرنتيسي. أُجري لها تحليل جديد، فظهر أنه 7.5، وارتفعت حرارتها فجأة إلى 39.
تضيف الأم: "حين تدهورت حالتها، طلب الأطباء فحوصات إضافية، وكانت النتائج سليمة، لكني لم أطمئن. كنت أريد أن أعرف ما بها. قالوا إنها تعاني من التهاب في العضلات بسبب سوء التغذية، وهذا ما سبب فقدانها الوزن. حددوا موعد مراجعة بعد أيام، وصادف أنه في 13 يوليو، بينما عيد ميلادها كان في 11 من نفس الشهر (أي قبل الموعد بيومين). وحين ذهبنا، رفضوا استقبالها لأنها تجاوزت سن 12 عامًا، وأحالونا إلى مستشفى الحلو الدولي".

كانت حنان في ذلك الوقت غير قادرة على تناول الطعام، ضغطها منخفض جدًا، واحتاجت إلى محاليل وريدية. حاول الأهل توفير مكملات غذائية من أي جهة دون فائدة. لم تكن قادرة على البلع، رغم أن صورة الأشعة كانت مقررة لها في 6 أغسطس، إلا أنها فارقت الحياة في نهاية يوليو.
قبل وفاتها، خسرت أربعة كيلوجرامات في أسبوع، وكانت تردد: "زهقانة، طشّشوني". فخرج بها والدها ليلًا على كرسي متحرك كي تروّح عن نفسها. حين عادت، نقلت إلى المشفى فورًا، وهناك توفيت.

تبكي إيناس وهي تخرج من جيبها "إسوارة" و"سِنسالًا" من الخرز صنعتهما حنان بيديها، وتقول: "فعلنا كل شيء لإنقاذها. اشترينا الخضار والفواكه بأسعار خيالية خصيصًا لها لتتحسن. اشتَهت الشوكولاتة وهي غير متوفرة. بحث والدها طويلًا حتى وجد قطعة واحدة بـ50 شيكلًا، واشتراها لها على مدار ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع لم يجد شيئًا".
وتتابع، والدّموع تملأ عينيها: "طلَبَت عنبًا وخيارًا، وفّرتهما بصعوبة لها وحدها. كانت تصنع الخرز وتحب الألوان الزاهية، وتحلم أن تصبح مهندسة مثل عمتها. كانت قوية وتحب دراستها، ومرّت معنا المجاعة الأولى دون أن تمرض".
يتدخل والدها محمد (33 عامًا): "حنان طفلتي البكر، أول فرحتي وكل حياتي. كنا أصحابًا، وكانت ترافقني عندما أخرج. خلال المجاعة الأولى، أكلنا السلق والخبيزة وغيرها من الحشائش".
ويضيف: "لم ننزح للجنوب لأنه لا أقارب لنا هناك. بقينا في بيتنا، ونزحنا في الشمال مرتين فقط حين قُصف حي الشيخ رضوان. حنان كانت شجاعة ولم تشعر بالخوف من القصف، بل كانت تشجعنا ونستمد قوتنا منها".

يبكي الأب وهو يقلب طوق الخرز الذي صنعته طفلته بيديها، ويقول: "كانت نشيطة، تملأ حياتنا فرحًا. كانت صديقتي المقربة. لم أتخيل يومًا أنها قد تموت، حتى وهي تتراجع صحيًا".

يضيف بصوتٍ متهدج: "حين طلبت الشوكولاتة، بحثت عنها في كل مكان. ولو طلبت عينَيّ لما ترددت. كنت أريد شفاءها بأي ثمن. لا أصدق أنها رحلت. أخوها الأصغر لم يستوعب الصدمة، أما الطفلان الآخران، فأحدهما صغير جدًا، والآخر وُلد في ظل الحرب".

رحَلت حَنان، تاركةً خلفَها ملابسها الجديدة، وربطات الشعر الزاهية، والخرز الملوّن، ودفاترها المدرسية، شاهدة على قصة طفلة قضت جوعًا في قطاع غزة؛ لتنضم إلى قائمة ضحايا المجاعة التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي، التي أودت بحياة 188 شخصًا.
تختم والدتها بحرقة: "كنّا مستعدين للتضحية بكل ما نملك كي تُشفى، لكنهم أهملوها. لو اهتموا من البداية، ربما نجت. ماتت ابنتي، قتلها الإهمال والمجاعة".

حنان.jpg
 

نوى