من أسقط فلسطين من أولويات العرب؟

بقلم محمد جمال صوالي

مراقب للسياسات الدولية غزة – فلسطين

تتزاحم الأزمات على الخارطة العربية، وتتداخل الحروب والنزاعات في تفاصيل الجغرافيا، حتى باتت القضايا تتنافس على الصدارة، وتُزاحم فلسطين في قلب الاهتمام. ورغم كل هذا الضجيج، تظل فلسطين الجرح الأعمق، والنداء الذي لا يخفت، والرمز الذي لا يُمحى من ذاكرة الشعوب كانت القضية الأولى، البوصلة التي توجّه الوعي العربي، لكنها اليوم تُواجه خطر التهميش، وتُطرح كملف مؤجل في مؤتمرات السياسة، لا كقضية وجود في وجدان الأمة. وتبرز فلسطين كجرحٍ قديم يُعاد تغطيته كل مرة دون أن يُشفى. كانت القضية الأولى، البوصلة، والرمز الجامع، فكيف تحوّلت إلى بندٍ مؤجل في بيانات القمم، وإلى خبرٍ عابر في نشرات الأخبار؟ هل هو الانشغال بالداخل؟ أم الانخداع بالمصالح؟ أم أن فلسطين لم تعد تُناسب سرديات الأنظمة الجديدة؟ من أسقطها؟ الشعوب أم الحكومات؟ الإعلام أم الصمت؟ وهل يمكن استعادتها إلى القلب العربي؟ أم أن القلب نفسه تغيّر؟ لقد مرّت فلسطين بكل مراحل الخذلان من التجاهل الرسمي إلى التواطؤ، ومن الحياد البارد إلى التغطية الرمزية التي لا تُغيّر شيئًا. لكنها لم تسقط من ذاكرة الشعوب، حتى وإن خفت صوتها في الساحات. ما زالت تُولد في القصائد، وتُرسم في الجداريات، وتُحيا في وجدان من لم ينسَ أن الكرامة لا تُجزّأ، وأن الحرية لا تُؤجل. فلسطين ليست قضية موسمية، ولا شعارًا يُرفع عند الحاجة. إنها اختبارٌ دائم للضمير العربي، ومرآةٌ تعكس ما تبقّى من إنسانيتنا. وإذا كانت قد سقطت من أولويات البعض، فإنها لم تسقط من التاريخ، ولا من وجدان من يؤمن أن الحق لا يموت، وإن طال غيابه. فلسطين كانت وما زالت جرحًا مفتوحًا في قلب الأمة، ونداءً لا يخفت في ضمير الشعوب. لم تكن مجرد قضية سياسية تُطرح في المؤتمرات، بل كانت وما تزال عنوانًا للكرامة، ومقياسًا للعدالة، ومرآةً تعكس صدق المواقف وتكشف زيف الشعارات. غير أن التحولات المتسارعة في المشهد العربي والإقليمي تطرح سؤالًا مؤلمًا هل ما زالت فلسطين تحظى بالمكانة التي تستحقها؟ وهل بقيت في صدارة الوجدان العربي كما كانت في عقود مضت؟ الواقع السياسي العربي يشهد تغيرًا عميقًا في الأولويات، حيث باتت القضايا الداخلية، والتحالفات الإقليمية، والتحديات الاقتصادية، تتقدم على حساب القضية الفلسطينية. بعض العواصم اختارت طريق التطبيع، وفتحت أبوابها لمن ينتهك الحقوق، بينما أغلقتها في وجه من يُناضل من أجلها. لم تعد فلسطين حاضرة في الخطاب الرسمي إلا في المناسبات، ولم تعد غزة تُذكر إلا حين يتصاعد الدخان من أنقاضها. رغم ذلك، ما زالت الشعوب العربية تحتفظ بفلسطين في وجدانها، وتُعبّر عن تضامنها في لحظات الألم والانكسار. كلما سقط شهيد، أو هُدم بيت، أو دُنّست مقدسات، ينبض الشارع العربي بنداءات الغضب والحزن، وتُولد قصائد جديدة، وتُرسم لوحات تُجسد الوجع الفلسطيني. الفرق بين الموقف الرسمي والشعبي بات واضحًا، وكأن فلسطين أصبحت قضية وجدانية تُحيا في القلوب، لا في البيانات. الإعلام العربي، الذي كان يومًا صوتًا لفلسطين، تراجع في حضوره، وتغيّر في خطابه. لم تعد فلسطين تتصدر النشرات، ولم تعد أخبارها تُبث بالاهتمام ذاته. بعض المنصات اختارت الحياد، وبعضها التزم الصمت، بينما بقيت أصوات حرة تُناضل بالكلمة والصورة، تُعيد لفلسطين حضورها في الوعي العام. المثقفون العرب، رغم ما يواجهونه من تضييق، ما زالوا يحملون فلسطين في نصوصهم، ويُعيدون رسم ملامحها في القصائد والروايات والمقالات. الأدب العربي لم يتخلَّ عن فلسطين، بل احتضنها بعيدًا عن الضجيج، وكتبها بصدق، واحتفى بها كرمز للحرية والكرامة. فلسطين لا تطلب المستحيل، بل تطلب الإنصاف. لا تستجدي العطف، بل تُناشد الضمير. لا تبحث عن مجاملة، بل عن موقف. في زمن تتغير فيه الخرائط، وتُعاد فيه صياغة التحالفات، تبقى فلسطين اختبارًا أخلاقيًا لكل من يدّعي الإنسانية. فلسطين لا تموت، لأنها ليست مجرد أرض محتلة، بل ذاكرة حيّة، ووجدانٌ عربيٌ لا يُمحى. قد تتغيّر السياسات، وقد تُبدّل الأنظمة أولوياتها، لكن فلسطين تبقى الحقيقة التي لا تُنسى، والنداء الذي لا يُخفت، والامتحان الذي لا يُنجح فيه إلا من اختار أن يكون إنسانًا قبل أن يكون تابعًا. في زمنٍ يُعاد فيه تعريف القضايا، وتُصاغ فيه المصطلحات من جديد، تبقى فلسطين هي الأصل، والبوصلة، والمرآة. ومن أسقطها من أولوياته، أسقط شيئًا من إنسانيته.

البوابة 24