صحافيات في قلب "الإبادة": "بحاجة لأن نلتقط أنفاسنا"!

صحافيات غزة فلسطين
صحافيات غزة فلسطين

غزة/ البوابة 24- منى خضر:

"ما أعيشه هو فوق طاقتي على التحمل.. أنا بحاجة فقط لألتقط أنفاسي"، بهذه العبارة، بدأت الصحافية نور السويركي حديثها، ثم وضعت يدها على فمها وبكت.

ومنذ أن بدأ العدوان على قطاع غزة، في السابع من تشرين أول/ أكتوبر 2023م، وجد الصحافيون الفلسطينيون أنفسهم في أسوأ نقلةٍ على الإطلاق في تاريخ المهنة، حين امتزجت سياقات العمل الصحافي بتفاصيل الحياة اليومية، وصارت الصحافة (ذريعةً إسرائيلية للاستهداف المباشر).

وارتقى في قطاع غزة منذ بدء العدوان، أكثر من 240 صحافيًا، بينهم 43 صحافية، قضت بعضهنَّ جراء قصفٍ مباشر، وأخريات فارقن الحياة تحت وطأة الخوف والرعب المستمر، بحسب إحصائية نشرتها مؤسسة "فلسطينيات"، في حين عدّت تقارير "مراسلون بلا حدود" غزّة، واحدةً من أخطر مناطق العمل الصحافي في العالم، وشبهتها بـ"مقبرة الصحافيين".

تحاول "نور" التماشي مع حالة الفقد الكبير الذي تعيشه من خلال خلق مساحةٍ للحياة الطبيعية، فقرّرت أن تُعدّ كوب شاي. ستشربه اليوم أيضًا بلا سكّر، فالسكّر مقطوعٌ منذ أشهر، لكنها تراجعت إلى الخلف لما تذكّرت أن عليها إشعال الحطب، وهي تعاني من حساسيةٍ في الصدر، "حتى كوب الشاي رفاهية، في ظل معيشتنا المُرة تحت النار منذ عامين" تزيد.

وأمام تفاصيل الحياة في الحرب، برزت نور، كما غيرها من الصحافيات الفلسطينيات، بوصفها رمزًا للمواجهة الحية بالكلمة والصورة، حين تحمّلت صنوف القصف وفقدان الأحبة وتدمير المنزل، وواجهت مسؤوليات ضخمة كصحافية، وامرأة، وأم، وزوجة، تضاعفت مع النزوح المتكرر والتهديد اليومي بالقتل.

تعود بذاكرتها إلى البداية، حيث أول صاروخٍ أصاب قلب غزة في ذلك السبت، وتقول: "لم يكن هناك مكان حتى لنمدد أجسادنا فيه بعد يوم عمل متعب. عن ماذا أحدثكم؟ أزمة الحمامات؟ الدورة الشهرية؟ عدم النوم لأيام؟".

وتضيف: "كنت أخاف من تغطية المساء.. كنت أخاف حقيقةً من الاستهداف المباغت لمكان وقوفي! أفكر في طفليَّ، وفي زوجي؟ ماذا لو استشهدت؟ ماذا لو أصبت؟".

نور البالغة من العمر (45 عامًا)، والأم لطفلين: جمال (14 عامًا)، وعلياء (12 عامًا)، لم تكن مجرد مراسلة، بل لطالما وجدت نفسها فجأة جزء من الحدث. تقول: "لكم أن تتخيلوا أنني منذ أول أيام الحرب في أكتوبر، وحتى فبراير، لم أخلع حجابي إلا في لحظة الاستحمام! نسينا أنفسنا فنحن صحافيات، والرسالة أهم من باقي التفاصيل. شعري تساقط، وجهي احترق من الوقوف تحت الشمس، وقلبي أحرقه القهر على دموع الثكالي، وروحي اختنقت بنيران الحطب."

بقيت نور في قطاع غزة، رغم سفر كل أفراد عائلتها خلال الحرب إلى مصر. أرسلت أطفالها معهم "ليكونوا بأمان" لكنهم -تستدرك- ينشدون الأمان بوجودي أنا وزوجي الصحافي سالم الريس معهم. لا يهم أين أو كيف؟ المهم أن نعود لنجتمع معًا، "وهذا ما لا أعرف متى؟ أو كيف سيحدث في ظل استمرار الحرب؟".
15 شهرًا مرت على نور دون طفليها. مرّ عليها العيد ورمضان، لكنها لم تنتبه! لكن أصعب خبرٍ تلقّته بينما كانت تغطّي المجازر المتتالية: "كان خبر قصف بيتي. ذكرياتي وذكريات أطفالي (..) شعرت حينها أنني مشلولة، كان أولادي وقتها هنا في غزة، لم أستطع تحريك قدمَي، لكنني بعد أن عرفت أن أطفالي كانوا في الشارع حينها بكيت.. بكيتُ فرحةً بنجاتهم، ونسيت حزني على البيت".

تحقيقاتٌ صحافية دولية، نُشرت ضمن مشروع "غزة"، الذي نسقته مؤسسة Forbidden Stories بالتعاون مع "أريج" ووسائل إعلام دولية منها "الغارديان"، و"لوموند"، و"دير شبيغل"، أكدت أن "إسرائيل" تعمدت اغتيال الصحافيين/ات في غزة. فقد فاق عدد شهداء الصحافة في القطاع ما قُتل منهم عالميًا خلال قرنٍ كامل.

وفي محاولةٍ لفهم حجم الكارثة الإنسانية، كشفت نتائج دراسة  ميدانية  أجرتها مؤسسة "فلسطينيات" على عينةٍ من الصحافيين والصحافيات في قطاع غزة، عن صورةٍ أكثر قتامة حيث يعاني ما نسبته 76.8% من الصحافيين والصحافيات من ضغوطٍ نفسيةٍ شديدة؛ نتيجة فقدان الأمان والخوف الدائم من الاستهداف، في حين يعبر ما نسبته 86.5% عن خوفهم المستمر من التعرض للقصف المباشر أثناء التغطية.

الصحافية شروق شاهين، تحدثت عن تأثيرات صعبة جدًا للحرب على قطاع غزة، "ليس لأنه حربٌ طال أمدها وحسب، بل لأنها حربٌ كُبرى في التاريخ الحديث" تقول.

وتضيف: "نغطي الأحداث تحت النار، صرنا نحن الصحافيات نعيش في موجات اكتئاب شديدة. نتفهم جيدًا عدم رغبة بعضنا بالحديث أصلًا! نتفهم الخوف المنتشر في كل مكان، حتى خوف الناس من وجودنا بالقرب، أو في أي مقهى! نتفهم ذلك لأنه ما في أمان".

تعاني شروق مثل نور تمامًا، من تساقط في الشعر، وظهور قشرة غزيرة في فروة رأسها. بشرتها الشاحبة تؤرقها، وجسدها الهزيل، وكل البؤس الذي تعايشه ليل نهار. تردف بحسرة: "حياتنا أقسى من ما يمكن أن يتخيله أحد. رغم ذلك مطلوب منا أن نقف بشموخٍ أمام الكاميرا، وننقل الصورة كاملة وبدقة".

تصمت شروق قليًلا قبل أن تشيح بوجهها مواريةً دموعًا تساقطت على خديها: "صعب كتير. صعب أشرحلكم عن الحياة الصعبة اللي بنعيشها. صعب أحكيلكم إحنا كل يوم شو بنحس؟ وشو اللي بيصير فينا".

وتؤكد الدراسات النفسية العالمية أن صحفيي الحروب يتعرضون لاضطرابات ما بعد الصدمة، حيث تتقاطع لديهم ثلاث صدمات: (الاستهداف المباشر، ومشاهدة الفظائع، وأخيرًا من إجراء مقابلات مع ضحايا آخرين).

رغم ذلك، انتصرت العديد من الصحافيات الفلسطينيات داخل قطاع غزة، في ميدانٍ هو الأصعب عالميًا! ميدان حربٍ واحتمالية نجاةٍ ضئيلةٍ للغاية. لقد شهد قطاع غزة ولادة أجيال جديدة من النساء الصحافيات، والمبادرات نسوية لدعمهن، لكن وجعهن يبقى مزمنًا.

ومع منع الصحفيين الأجانب من الوصول، ظلت أصواتهن الشفافة هي الوحيدة التي نقلت الحقيقة، مستخدمات الوسائل الرقمية لكسر الحدود الإعلامية ومحاولات التعتيم.

نوى