قراءة في رواية"تنهيدة حريّة" للكاتبة الفلسطينيّة رولا خالد غانم بقلم أستاذ النّقد الأدبي بجامعة عين شمس (الدكتور حسام عقل).
تنهيدة حرية رواية سوسيولوجية اجتماعية سياسية للدكتورة رولا غانم، فاجأتني الدكتورة رولا بإطلالها على السياسة بهذه الطريقة، فقط أطلّت على السياسة من خلال حديثها عن قضيّة الأسرى الفلسطينيين، خاصّة صفقة "وفاء الأحرار" تلك الصفقة ـالتي حرّرت حمزة الأيقونة الثورية في الرواية الذي جسّد إصرار الفلسطيني على التجذر في الأرض والدّفاع عنها، هل رولا غانم تسير على نهج سحر خليفة وهل صنعت بتنهيدة حريّة ما صنعته خليفة في باب السّاحة، أم اشتغلت على مدرسة جبرا إبراهيم جبرا، أم إيميل حبيبي، رولا غانم كما سحر خليفة حكّاءة مجبولة بالفطرة، أولت مساحة للوجدان الفلسطيني، رولا غانم برعت في الجزء السوسيولوجي والاجتماعي، حقّ المرأة الفلسطينيّة، بالبداية دعونا نرى الإهداء، أغرب إهداء في تاريخ الرواية العربية والعالمية تقول غانم:"إن كان لا بد من الإهداء، فسأهدي روايتي هذه إلى الخراب، من عاش محنتنا عرف معنى أن أهدي روايتي هذه إلى الخراب، وللذين تظاهروا في أنحاء الكون من أجل خلاصنا منه" هنا شرحت غانم ضمنا ما يجري، ويستطيع كل ناقد أن يؤوّل مرادها بطريقته، وهناك الجمل المفتاحية وهي بحد ذاتها حكاية، وهناك جمل تعبيرية مكثّفة تحمل دلالات عميقة، تكتب رنا بعد هجرة صديقتها غادة إلى إسبانيا:"خلف هذا الباب كان لنا أحبّة وأحلام معلّقة" وفعلا الحلم الفلسطيني بقي معلقا ولم يتحقق لغاية الآن، حلم العودة تكرّر لدى غانم كما درويش ومناصرة، وظل هاجسا لكل لاجئ فلسطيني. تقول غانم:"لم تنظر غادة خلفها مطلقا، وصوّبت نظرها إلى الأمام"..استطاعت غادة الانطلاق وطعن الحصار، كما شقيقتها بتول التي نهضت بعد أن تعثرت مرارا ونفضت الغبار عن حياتها، لتبدأ من جديد، هي أرادت أن تقول إن الشقيقتين رغم القمع والألم والحصار لم تخسرا شيئا، وبدأتا من جديد..وأنهت غانم الرواية بالعشّ الهني والانتشاء...كما أنّ لدى غانم حسّا رومانتيكيا واضحا، وهي دوما تغرس الأمل وترى نورا في نهاية النفق، وأظن أنها هكذا في حياتها ومع طلابها. رواية غانم غير مؤدلجة، ومفتوحة للفلسطينيين بكافة أطيافهم، وعلى اختلاف مشاربهم.. تقول غادة جملة تصف الواقع:"مجتمعكم مجتمع ظالم يدين الإناث، ويبرئ الذكور"، وأكبر دليل على ذلك ما حدث مع غادة وبتول رغم تحذير الراوي لهما من الخديعة. لدى غانم ذكاء في التعامل، وإثارة القضايا، فهي تفتح ملفات ملغومة، ولا تترك الناس في حالة حياد، ووظيفة أي مبدع أن يلقي حجرا في البحيرة. عندنا في الرواية فكرة الدوكمنتيشن" التوثيق للمرحلة" فقد أوضحت أنّها كتبت الرّواية ما بين السابع من أكتوبر وشهر مايو..مع أنّني ضد تحديد الزمن..الجدّة السارد الأساسي في الرواية تروي قصّتها بشجاعة وثبات رغم الأحداث المؤلمة التي ألمّت بها. تقول الجدّة سلمى:"قدر أحمق الخطا كان يقف على عتبات حياتي" ويقول عبد الحليم حافظ: "قدر أحمق الخطا"..لغة غانم أقرب للشعر، في الرواية قصيدة شعر نثرية، لغة غانم مكثّفة تثري السّرد.. تنوّع غانم بوصف الشّخصيّات ومعظم شخصيّاتها أنثويّة، فمرّة تركز على البعد النفسي، ومرّة على البعد الاجتماعي، ومرّة الطبقي..لا تستطيع أن تسجنها في نسق واحد في وصف الشّخصيّات، تقول واصفة الحاجة آمنة:"امرأة ذات شخصية قويّة ولسان سليط، متجبّرة ومتهوّرة، سريعة الغضب وردود أفعالها عنيفة" وهذه أوصاف نفسيّة.. السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا أوكلت غانم للجدّات الحكي؟ ربما تريد استدعاء المعنى التاريخي والدلالة التّاريخيّة.. في بداية الرواية ظننت أن جميع الرّجال غير جيّدين، لكن سرعان ما ظهرت شخصيّة خليل وهي أيقونة للنبل والأمانة، فهو كان نبيلا حتى في وصيّته وأنصف بتول التي تبنّاها. وهناك حمزة رمز النضال الثوري، إنسان وطني يشترك في عمليّة فدائيّة ثمّ يحكم عليه بالسجن لسنوات طويلة، ويخرج في صفقة "وفاء الأحرار" صفقة تبادل الأسرى بين حماس والاحتلال الإسرائيلي، أو صفقة شاليط كما يسمّونها الفلسطينيون، حمزة يفاجئ بتول بخروجه ويطلب الزواج منها رغم انفصالها عن زوجها، وإنجابها أربع بنات؛ ليتصادم مع والدته التي ترفض ارتباطه بمطلّقة، وينجح في إنقاذ حبّه بالأخير، الشخصيّة المركزية حمزة، عندما عاد حمزة عاد العالم السردي لترتيب الأوراق، وانضبطت البوصلة بعودة حمزة المناضل الحقيقي.. بتول شخصية صقلتها المآسي وعجنتها الظروف الصّعبة، حين طلب والدها منها مسامحته رفضت، هنا لحظة نفسية خطيرة؛ لم تستطع المسامحة لأنه تخلّى عنها وتركها في مهب الريح تواجه مصيرها المجهول.. وهناك شخصيّة يوسف الرّجل المتعجرف المتغطرس، الذي ظن بأنّه يستطيع أن يشتري بماله ما يشاء، حين طلب من غادة الفتاة الجميلة العزباء الصغيرة الزّواج بالسّر وهو متزوج، هنا نجحت غانم في وصف رأس المال السياسي، هذا المال الذي يحرك بعض السّاسة، يوسف هنا نموذج لرأس المال النفطي.. قدرة غانم على الوصف مذهلة، فهي من فرط وصفها لأمّ وليد وهي تحمل كيس الفلافل تكاد تشتمّه، سردها ريكوردي مفصّل، يستهويه المتلقي.. رغم مظهر رولا غانم المخملي والأرستقراطي تشعر بأنها بنت بلد، تقول على لسان غادة: "قررت أن أركن يوسف على رصيف الذّكريات"..كلمة ركن تعبير له رحيق شعبي.. غانم فلسطينية حتى النّخاع بقيت تمرّر الخطاب الوطني بين سطور الرّواية..تقول:"خالد أصله فلسطيني من غزّة إذن هو من شعب الجبارين". وهذا تعبير قرآني تاريخي.. لم تتخلّ غانم عن عروبتها أيضا، فهي لم تنس المجد العربي حين راحت تصف قصر الحمراء وتتغنّى بالحضارة الأندلسية متعمّدة. ومن عناوين الرواية "كعادتها لم تنجب لنا ولدا صبيا" عنوان مشاكس يتعمد تصدير المشاكسة ويختزل الموضوع، تفضيل الذكور على الإناث، الطبع الذي لا زال قائما في الدول العربية. مراحل القهر في الرواية متتالية، مع ذلك تضع غانم نسقا جديرا للوعي وتسعى للتحفيز وإيقاظ الهمم، في نهاية الرواية الجدّة تحمل صندوق الأسرار الذي لم تكشف قصته في البداية، لتحبس أنفاس القارئ طوال الوقت، وتخرج وصيّتها، وكذلك بتول تجلب صندوق رسائل حمزة وتسحبها الواحدة تلو الأخرى لتصل إلى رسالة رقم مئة، كما سرّ كراسة تشي جيفارا، التي كان يكتب فيها مختارات شعرية لكبار الشعراء. أخيرا لدى رولا غانم جبروت في الأداء السردي..رواية تنهيدة حريّة تستحق الدراسة.. رواية متعوب عليها.