بقلم: المحامي علي أبو حبلة
رحل الكاتب والصحفي العراقي الساخر داوود الفرحان، تاركًا خلفه إرثًا من المقالات التي جمعت بين السخرية العميقة والصدق الجارح. لم يكن مجرد كاتب يتلاعب بالكلمات، بل كان ضميرًا حيًا حمل هموم وطنه وأمته، وسخّر سخريته كسلاح في مواجهة الظلم والاستبداد. عبارته الشهيرة: «خائن الوطن كمثل السارق من بيت أبيه ليطعم اللصوص، فلا أبوه يسامحه ولا اللص يكافئه»، لم تكن مجرد حكمة، بل كانت مرآة تختصر مآسي أمة بأكملها. وهي اليوم تنطبق على واقع عربي ممزق: أوطان تسرقها أنظمتها، وتنهشها التدخلات الخارجية، فلا الشعب ينال حقه ولا العدو يرضى عنه. منذ سبعينات القرن الماضي، اختار الفرحان أن يقف في صف الناس، أن يكتب بلسانهم ويضحك بمرارتهم. كان يعرف أن السخرية ليست للترفيه، بل لفضح المستور. انتقد الأنظمة المتعاقبة، قبل الاحتلال الأمريكي للعراق وبعده، وكشف تناقضاتها وهشاشتها، وظل يردد أن الصحافة إذا فقدت حريتها فقدت روحها. واليوم، ونحن نودّع الفرحان، نقف أمام واقع عربي مرير: غزة تنزف تحت الحصار، جوعى أطفالها وصامتة أديان العالم عن مأساتها. العراق ما زال ممزقًا بين الطائفية والتبعية، يبحث عن وحدة ضائعة. سوريا تتنازعها مشاريع التقسيم، بينما تُستنزف في حرب لا تنتهي. لبنان يغرق في أزماته وانقساماته الداخلية حتى باتت الدولة بلا سند. اليمن المكلوم صار وطنًا مقسمًا بين جغرافيا الحروب ومصالح القوى. السودان ينزف من جراح حربه الداخلية، حتى صار أبناؤه غرباء في وطن تتنازعه البنادق. ليبيا عالقة بين فصائل متنازعة وأطماع خارجية، كأنها ساحة بلا حدود. وفي قلب هذه المآسي، يتمادى نتنياهو في استباحة الدم الفلسطيني، متكئًا على صمت دولي وتواطؤ إقليمي، وأحلامه لا تقف إلا عند حدود ما يسميه "إسرائيل الكبرى"، حلم استيطاني توسعي يهدد بقاء المنطقة بأسرها. إن رحيل داوود الفرحان يذكّرنا بفقدان صوت ساخر شجاع كان يجمع بين ضحكة مرة وتحليل عميق. في زمنٍ تشتد فيه المؤامرات وتتكاثر المخاطر على وحدة الأوطان وأولى القضايا – فلسطين – نحتاج إلى مثل تلك الأقلام التي لا تخشى الحقيقة، وتواجه الكذب بالسخرية، والظلم بالضحك المرّ. ختام روائي – سياسي كأن رحيل الفرحان لم يكن غيابًا بقدر ما كان جرس إنذار. رحل الجسد وبقيت الكلمات تلاحقنا: غزة التي تصرخ ولا يُسمع صوتها، العراق الذي يفتش عن ذاته بين الركام، سوريا التي تتأرجح بين حياة وموت، لبنان الذي يترنح على حافة الانهيار، اليمن المثقل بالدماء، السودان الذي يغترب عن نفسه، وليبيا التي تبحث عن دولة وسط الفوضى. رحل الفرحان، وكأن القدر يقول لنا إن ساخرًا واحدًا يمكن أن يكون أكثر صدقًا من مئات الخطب الرسمية. لقد علّمنا أن السخرية ليست عبثًا، بل هي الوجه الآخر للحقيقة حين تُحجب، وأن الضحك المرّ قد يكون آخر وسيلة للدفاع عن أوطان مهددة وأحلام أمة معلقة على خيط رفيع.