في قفص الكلمات: حين يصبح النص مرآة للإنسان

 بقلم: المحامي علي أبو حبلة

لم تكن "ليلى" إلا امرأة عادية، تبحث عن مساحة ضوء في زمن يزداد فيه الظلام كثافة. جلست أمام نافذة الشاشة المضيئة، كمن يشعل شمعة في ليلٍ طويل. كتبت، لا لتُهاجم أحدًا، بل لتصرخ بوجع الناس، لتقول إن الفقر ينهش الأجساد، وإن الصمت يثقل الأرواح. لكنها سرعان ما أدركت أن "الكلمة قد تكون جسرًا يعبر بك إلى الحرية، وقد تكون قيدًا يجرّك إلى السجن"، كما قال الفيلسوف ميشيل فوكو: "حيث توجد السلطة، يوجد الخطاب." وهكذا تحولت كلماتها إلى أوراق في ملفات الاتهام. في قاعة المحكمة، جلست خلف القفص الزجاجي. أمامها تُقرأ التهم: قذف، شتم، تحريض إلكتروني. لم يسألها أحد عن نواياها، ولم يبحثوا عن المعنى خلف حروفها. تذكرت حينها قول سقراط: "القانون وحده لا يكفي ليجعل الناس أحرارًا، ما لم يكن في داخله عدل." لقد رأت ليلى بعينيها كيف يمكن للنصوص أن تصبح سيوفًا حين تُطبق بجمود، وكيف أن القوانين التي تُفصل عن واقع المجتمع تُزرع في أرض قاحلة. فالقوانين، كما قيل قديمًا، "إن لم تحمِ الضعيف، فهي لا تستحق أن تُحترم." القضية لم تكن عن ليلى وحدها، بل عن مجتمعٍ يواجه زحف الجرائم الإلكترونية: ابتزاز، تشهير، قرصنة، وانتهاك لخصوصيات الأفراد. صحيح أن هذه الجرائم خطر على الأمن والاقتصاد والأسرة، لكن الخطر الأكبر هو حين يتحول القانون إلى عصا تُكسر بها الأصوات بدلاً من أن يُمد كجسر لحمايتها. البعد الرمزي والفلسفي إن قصة ليلى تحمل رمزًا أوسع: نحن بحاجة إلى قانونٍ يتذكر أن الإنسان ليس مجرد متهم، بل كائن هش يبحث عن كرامة. ألم يقل أرسطو: "العدل هو إعطاء كل ذي حق حقه"؟ والحق لا يقتصر على العقاب، بل يشمل أيضًا الرحمة والإنصاف. المجتمع الذي يُحاكم صرخاته بدلًا من أن يسمعها، هو مجتمع يحفر جراحه بيده. وكما يقول المثل: "إذا أردت أن تعرف عدل الأمة، فانظر إلى كيفية تعاملها مع أضعف أفرادها." الخاتمة إن مواجهة الجرائم الإلكترونية ليست برفض القانون، بل بالبحث عن توازنه. فالعدالة ليست في النصوص وحدها، بل في كيفية تطبيقها بما يحمي الأسرة، ويحافظ على تماسك المجتمع، ويضمن أن تبقى الحرية أداة بناء لا وسيلة هدم. القوانين العادلة تشبه الماء، تأخذ شكل الإناء لكنها تروي كل عطشان. أما القوانين الجامدة فهي كالصخرة، قد تردع، لكنها لا تُحيي. ولعل أجمل ما يُختتم به هو قول غاندي: "العدالة التي لا يختلط بها الرحمة، ليست عدالة." فهل نملك الشجاعة لنُعيد النظر في قوانيننا، كي نُبقي الكلمة جسرًا للحرية، لا قفصًا من زجاج؟

البوابة 24