مصر في قلب عاصفة غزة.. ضغوط متجددة ومعادلة إقليمية معقدة

بقلم: عائد زقوت

شكّلت عملية حماس في السابع من أكتوبر 2023 نقطة انعطاف حاسمة في المشهد الإقليمي، فقد تجاوزت العملية كونها حدثًا أمنيًا أو مواجهة عسكرية محدودة، لتكشف عن تحولات استراتيجية أعمق، حيث تحوّلت الأهداف الإسرائيلية من مجرد استعادة رهائن أو تقويض قدرات الحركة، إلى سعي لإعادة صياغة المنظومة الأمنية والجيوسياسية في الشرق الأوسط. وفي قلب هذه التحولات، تجد القاهرة نفسها أمام اختبار استراتيجي يمس إرثها الدبلوماسي وصلابة معاهدة السلام المصرية–الإسرائيلية، ويضعها أمام شبكة ضغوط متجددة ومساومات إقليمية ودولية معقدة.

أولاً: الضغوط التاريخية والإقليمية على الدور المصري. منذ اندلاع أحداث الربيع العربي، واجهت القاهرة محاولات متواصلة لتحجيم دورها الريادي والتاريخي، فقد برزت مشاريع إقليمية منافسة سعت إلى إعادة توزيع موازين القوى في المنطقة، بعضها مدعوم بأطراف دولية حاولت تهميش مصر وإقصاءها عن الملفات الساخنة، سيّما الملف الفلسطيني، وفي هذا السياق برزت أطروحات اعتبرت مصر "الجائزة الكبرى"، الأمر الذي زاد من حدة التنافس حول مكانتها في الإقليم. ورغم هذه الضغوط، استطاعت القاهرة أن تشكّل حاجزًا استراتيجيًا أمام مخططات التهجير القسري للفلسطينيين، وأن تتحمل عبء الاتهامات المرتبطة بحصار غزة، مع أنها لعبت مرارًا دور الوسيط الحصري في تثبيت الهدنات وتخفيف المعاناة الإنسانية في القطاع.

ثانياً: الخطة الأميركية ومعضلة الدور المصري. جاءت الخطة الأميركية التي طرحها الرئيس دونالد ترامب كجزء من رؤية شاملة لإعادة هندسة المشهد الإقليمي، متضمنةً ثلاث ركائز أساسية تمس موقع مصر مباشرة:

1. إعادة تشكيل منظومة الأمن الإقليمي يقوم الطرح الأميركي على تعاون أمني ثلاثي (مصري، إسرائيلي، وقوة سلام عربية ودولية) لتأمين الحدود الجنوبية عبر أنظمة مراقبة متطورة، ورغم أن هذه الخطوة قد تُسهم في تقليل التهديدات الأمنية القادمة من غزة وتخفف الضغط على مصر، فإنها تحمل مخاطر واضحة على السيادة الوطنية، إذ قد تفتح الباب لوجود قوى غير محايدة أو وصاية دولية على الحدود دون ضمانات مقبولة للقاهرة.

2. الأحادية السياسية – احتكار واشنطن للمسار التفاوضي. رغم مشاركة مصر في صياغة الخطوط العريضة للمبادرة، فإن الخطة تضع واشنطن في موقع المحرك الوحيد للعملية السلمية والمفاوضات، وهذا التوجه يُهدد بتقليص الدور المصري التاريخي كوسيط حصري في النزاع الفلسطيني–الإسرائيلي، ويضعف من مكانتها التفاوضية في أي مسار سياسي لاحق.

3. الهيمنة على عملية إعادة الإعمار يقترح الطرح الأميركي إنشاء صندوق دولي لإعمار غزة تهيمن عليه واشنطن، وهو ما قد يحرم مصر من إحدى أدوات نفوذها التقليدية والاقتصادية في القطاع، ويُقيِّد قدرتها على التحكم في مسار الإعمار وربطه بمصالحها الإقليمية.

ثالثاً: أوراق القوة المصرية أمام هذه المساومات الإقليمية والدولية، لا تزال القاهرة تمتلك أوراق ضغط استراتيجية تعزز من موقعها: ● الرافعة الجيوسياسية: موقع مصر الاستراتيجي يجعلها لاعبًا لا غنى عنه، فهي تتحكم في قناة السويس وأمن البحر الأحمر، وتشكّل بوابة غزة وشريكًا حدوديًا لإسرائيل، ما يمنحها قوة ضغط يصعب تجاوزها. ● التحالفات الإقليمية والدولية: تعتمد القاهرة على سياسة تحالفات مرنة ومتعددة الاتجاهات، تجمع بين تعميق الشراكة العربية، والانفتاح على روسيا والصين والاتحاد الأوروبي، وتوسيع دائرة العلاقات داخل إفريقيا. ● الأدوات الدبلوماسية المتجددة: تستثمر مصر في أدوات متنوعة كالدبلوماسية البرلمانية، وتفعيل دور المجتمع المدني، مدعومة بخطاب سياسي حازم يرفض التهجير أو الوصاية الخارجية. ● القوة الناعمة والخطاب السياسي: من خلال الإعلام والدبلوماسية الثقافية، تعيد القاهرة إنتاج خطابها الذي يؤكد دورها كضامن أساسي للأمن والاستقرار في المنطقة. رابعاً: الاعتبارات الداخلية المصرية لا يمكن فصل الموقف المصري عن اعتبارات الداخل، حيث تتقاطع الأبعاد الأمنية والسياسية والاقتصادية في صياغة موقف القاهرة:

■الأمن القومي: أي سيناريو للتهجير القسري من غزة يُشكّل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري، إذ قد يُغيّر التركيبة الديموغرافية في سيناء ويخلق بؤر توتر أمني جديدة.

■الحالة الاقتصادية: تمر مصر بمرحلة حساسة من الإصلاحات الاقتصادية والديون الخارجية، وأي ضغوط جديدة قد تضعها أمام معادلة صعبة بين تلبية متطلبات الداخل والحفاظ على نفوذها الإقليمي.

■الرأي العام: المزاج الشعبي المصري يميل إلى رفض أي ترتيبات قد تمس القضية الفلسطينية أو تمهّد لتهجير سكان غزة، ومن ثمّ فإن النظام السياسي المصري مُلتزم بمراعاة هذا البعد.

خامساً: التحديات والفرص المستقبلية تمثل الخطة الأميركية تحديًا مزدوجًا لمصر: فهي تتيح لها فرصة لتعزيز دورها إذا نجحت في التفاوض على ضمانات سيادية وأمنية واضحة، لكنها تنطوي في الوقت نفسه على مخاطر تقليص نفوذها التقليدي تحت الهيمنة الأميركية. من جهة أخرى، يمكن للقاهرة أن تستثمر هذا الظرف لإعادة إنتاج دورها الإقليمي عبر:

□تعزيز الدبلوماسية الوقائية لحماية حدودها وأمنها القومي

□المناورة بين القوى الكبرى، بحيث لا تتحول إلى تابع للولايات المتحدة أو رهينة للمحاور الإقليمية.

□تفعيل دورها في إعادة الإعمار، حتى ولو من خارج الصندوق الأميركي، عبر تحالفات بديلة مع شركاء إقليميين ودوليين. رغم تشابك المشهد وتعقيداته، تبقى القاهرة لاعبًا لا غنى عنه في المعادلة الإقليمية، فإرثها الدبلوماسي، وعلاقاتها المتوازنة، وقدراتها الأمنية واللوجستية، تجعلها عنصرًا حاسمًا في أي هندسة جديدة للشرق الأوسط، غير أن التحدي الحقيقي أمامها يتمثل في قدرتها على تحويل هذه الضغوط إلى منصة لتجديد دورها الإقليمي، لا إلى خطوة على طريق التراجع عن مراكز النفوذ التاريخية. إن اختبار غزة قد يكون لحظة فاصلة لمصر، إما أن تعيد من خلاله تثبيت دورها كقوة إقليمية لا يمكن تجاوزها، أو أن تجد نفسها أمام تقليص نفوذها في ظل هيمنة دولية جديدة على المنطقة.

البوابة 24