تشهد منطقة الشرق الأوسط سلسلة من التطورات المتسارعة التي تُنبئ بتحوّل استراتيجي مُعقد، قد يُشكّل مُقدِمة لإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية وموازين القوى. تحوّلٌ يتجاوز حدود الحرب في غزة ليصل إلى مسعى أميركي جدي لإعادة ترتيب منظومة الأمن والسلام الإقليمي برعاية واشنطن، وبدعم من أوروبا وأنقرة والدوحة في إطار رؤية مختلفة عن تلك التي أرستها الولايات المتحدة في سبعينيات القرن الماضي، إذ يجري الآن بناء مشروع سياسي أمني متكامل يُراد له أن يكون الإطار الناظم للشرق الأوسط الجديد.
في ذات الشأن لم يكن التحرك المفاجئ لطائرات تزويد الوقود الأميركية باتجاه قاعدة العديد في قطر خطوة روتينية؛ فهذه الطائرات تمثل العمود الفقري لأي عمليات جوية ممتدة، ما يعني أنّ واشنطن ترفع جاهزيتها العملياتية في الشرق الأوسط، سواءً لأغراض الردع أو لتنفيذ عمليات محدودة ضد أهداف إيرانية أو فصائل حليفة لطهران في العراق واليمن؛ وتزامن ذلك مع توقيع الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا لتفعيل التفاهمات الأمنية المشتركة مع قطر، لتصبح الدوحة أول "حليف استراتيجي من خارج الناتو"، في تطور يمنح قاعدة العديد بُعدًا استراتيجيًا جديدًا ويعيد تموضع الثقل الأميركي في الخليج نحو مركز أكثر مرونة وفاعلية.
في حلقة متصلة تسعى واشنطن إلى تحويل قطر إلى محور دبلوماسي وأمني تدير عبره التوازنات الحساسة في المنطقة وتُمهّد الطريق لتنفيذ مبادرتها لإنهاء الحرب في غزة، فالدوحة تمتلك شبكة علاقات متشابكة تمتد من السلطة الفلسطينية وحماس إلى واشنطن وأنقرة والقاهرة، ومنحها صفة "الحليف الاستراتيجي" لا يقتصر على البعد العسكري، بل يجعلها شريكًا مباشرًا في صياغة ترتيبات التسوية المقبلة. بهذا تضع الولايات المتحدة يدها على قناة الوساطة الأكثر تأثيرًا على حماس واسرائيل، وتُعيد صياغة الدور القطري ليصبح سياسيًا–أمنيًا مزدوجًا يخدم مشروع التسوية الأميركية ويضمن استمرار النفوذ الغربي في الخليج.
على الضفة الأخرى تحوّل تركي ضاغط، فقد جاءت قرارات الرئيس التركي أردوغان بفرض عقوبات على شركات إيرانية متزامنة مع العقوبات الأوروبية والأميركية لتشكّل طوق ضغط مزدوج على طهران، هذا التناغم بين الغرب وأنقرة يعكس بروز تحالف جديد هدفه احتواء النفوذ الإيراني في معادلة غزة–لبنان–اليمن–العراق، وتهيئة الأرضية لصفقة إقليمية تُنهي الحرب بشروط تخدم الرؤية الغربية. فتركيا التي سعت سابقًا إلى لعب دور الوسيط بين إيران والغرب، انتقلت الآن إلى موقع الضاغط، في محاولة لاستعادة موقعها داخل المحور الغربي وتحسين علاقاتها بواشنطن مقابل مكاسب سياسية واقتصادية. على ذات الضفة فإنّ التحوّل الأبرز في الموقف التركي تمثل في ممارسة ضغوط مباشرة على حركة حماس لدفعها نحو التعامل بمرونة مع خطة ترامب لإنهاء الحرب؛ فأنقرة التي احتضنت قيادات الحركة لسنوات، باتت تُوظِّف علاقاتها السابقة كورقة تفاوضية مع واشنطن لإقناع حماس بقبول "التسوية المرحلية" التي تتضمن وقفًا طويل الأمد لإطلاق النار، وتفاهمات أمنية بضمانات قطرية–تركية، مقابل إعادة إعمار مشروطة لغزة. وفق المعطيات فإن أنقرة تهدف من ذلك إلى تحقيق هدفين متوازيين:
•تخفيف التوتر مع الولايات المتحدة وتقديم نفسها كقوة تسوية لا كطرف منحاز.
•ضمان حضورها في ترتيبات ما بعد الحرب وعدم ترك الساحة بالكامل للدوحة والقاهرة.
وفق المعطيات تبدو مقترحات ترامب الأخيرة أقرب إلى إطار أمني لإعادة ترتيب الإقليم منها إلى مبادرة سياسية لإنهاء الصراع، فالخطة تسعى إلى تفكيك البنية العسكرية لحماس عبر تفاهمات أمنية تضمن لإسرائيل حدودًا آمنة، وإعادة صياغة إدارة غزة ضمن ترتيبات إقليمية ودولية، وتحييد إيران عبر ضربات عسكرية محتملة وضغوط اقتصادية منسقة، بهذا المنظور، تصبح "نهاية حرب غزة" نقطة انطلاق لإعادة ترتيب موازين القوى الإقليمية وفق الرؤية الأميركية. بحسب التحليل تتلاقى التطورات الأخيرة في مسار واحد يقود إلى إعادة هيكلة الشرق الأوسط وفق معادلة أميركية جديدة: تُمنح قطر دور الحليف والشريك الأمني الاستراتيجي الأول من خارج الناتو؛ وتستعيد تركيا موقعها الغربي بالضغط على حماس والمشاركة في محاصرة إيران؛ بينما تستفيد إسرائيل من تسوية أمنية وسياسية مريحة؛ وتواصل مصر من خلال الدبلوسية الوقائية معركة الحفاظ على نفوذها التقليدي بكل أوراقها الاستراتيجية التي لا تستطيع أي ترتيبات أو تحالفات تجاوزها كونها ركيزة أساسية لأمن واستقرار المنطقة؛ أمّا الفلسطينيون، فيُدفعون نحو تسوية تفرضها معادلات القوى الراهنة، والتي قد يجانبها النجاح دون حصولهم على حقوقهم المشروعة وتحقيق طموحاتهم في دولة وفقًا لمقررات الشرعية الدولية.
في إطار القراءة المتاحة فإنّ المنطقة تمر بمرحلة إعادة اصطفاف اقليمي حقيقية، وعلى ما يبدو فإن نهاية حرب غزة ليست نهاية الصراع، بل بوابة لشرق أوسط جديد يُعاد رسمه برعاية واشنطن، وبمشاركة حلفاء جُدد، وأدوار يُعاد توزيعها بعناية على مقاس المرحلة المقبلة. وتبقى غزة "بكل رمزيّتها التاريخية والوجودية وثقلها السياسي" الساحة الاختبارية الأهم لمستقبل النظام الإقليمي الجديد في ظل صراع إرادات إقليمية ودولية محتدمة؛ فغزة ليست مجرد بوابة لنظام جديد، بل هي قضية شعب وأرض وكرامة، وأي حل يتجاهل هذا الجوهر محكوم بالفشل.