غزة تنزف: مرضى الثلاسيميا ضحايا الحرب والنقص الحاد في الدم

مرضى الثلاسيميا
مرضى الثلاسيميا

غزة/ البوابة 24- رشا أحمد:

على سريرٍ باهت الضوء في زاوية المستشفى، يرقد طفلٌ نحيل تتناثر على ذراعه أنابيب البلاستيك الشفافة، تتسلل منها قطرات الدم ببطء كأنها تُعيد الحياة نقطةً نقطة. عيناه تتابعان كيس الدم المعلّق فوقه كما يراقب الغريق حبلاً في آخر الموج، فيما أمه تهمس دعاءً خافتًا لا يسمعه سوى قلبها المرتجف. بين صفير الأجهزة وانقطاع الكهرباء، يتحول انتظار كل قطرة إلى معركة صامتة مع الموت، معركة يخوضها مريض الثلاسيميا في غزة بصبرٍ أثقل من الجراح.

في عمق المأساة التي يعيشها قطاع غزة، تتكشف معاناة لا تقل قسوة عن القصف والدمار. فمرضى الثلاسيميا يواجهون حربًا من نوعٍ آخر، حربًا لا تُرى فيها الشظايا ولا يسمع فيها الانفجار، بل يبطئ فيها الموت خطاه داخل أجسادٍ تنتظر الدم لتعيش. وهكذا تمتد المأساة من أسرّة المستشفيات إلى بيوتٍ تنتظر الحياة على أمل كيس دم واحد.

حياة معلقة بين كيس دم وقرار طارئ

في المستشفيات التي ما زالت تعمل رغم الدمار، يعيش المرضى على أمل أن تصل إليهم وحدة دم قبل فوات الأوان. الطواقم الطبية تعمل بأعصاب مشدودة في ظل نقصٍ حاد في وحدات الدم، إذ استُنزف معظم المخزون في معالجة الجرحى والمصابين جراء القصف المتواصل.
يقول الدكتور محمد الفرا من مجمع ناصر الطبي في خانيونس لـ "البوابة 24": “نحن نحاول إنقاذ الجميع، لكننا مضطرون لتقنين وحدات الدم. الأولوية للمصابين في النزيف الحاد، ومرضى الثلاسيميا يُؤجلون إلى أن تتوفر الكمية الكافية، إن وُجدت”.
وبذلك يصبح كل قرارٍ في غرفة الطوارئ أشبه بالحكم بين الحياة والموت، بينما تقف الطواقم عاجزة أمام قسوة الواقع وشح الإمكانيات.

عائلات تبحث عن الأمل في شوارع مدمرة

في أحد أحياء خان يونس، تجلس أم سمير قرب ابنها المصاب بالثلاسيميا، تمسك بيده الصغيرة وتراقب وجهه الذي بدأ يفقد لونه، تقول: “كل مرة يتأخر نقل الدم، يبدأ وجهه بالاصفرار، ويضعف جسده أكثر. أبحث عن متبرع، أتنقل بين المستشفيات، لكن الدم غير موجود. أخاف أن أفقده في أي لحظة”.
قصص كهذه تتكرر في كل بيتٍ يضم مريضًا بهذا الداء المزمن. ونتيجة لذلك، تبذل الأسر كل ما تملك لتأمين حياة أبنائها؛ بعضهم يطلق نداءات عبر الإذاعات ووسائل التواصل الاجتماعي، وآخرون ينتظرون بصمت أمام غرف بنك الدم على أمل أن يُكتب لهم يوم إضافي.

الطواقم الطبية بين الواجب والعجز

تقول الدكتورة صوفيا زعرب من مجمع ناصر الطبي لـ "البوابة 24": “الثلاسيميا لا تعرف التأجيل، المريض يحتاج إلى نقل دم منتظم، وكل يوم تأخير يهدد قلبه وكبده ويترك أثرًا لا يمكن علاجه. نحن نرى المرضى يضعفون أمام أعيننا ولا نملك شيئًا.”
بسبب الضغط المتواصل على بنوك الدم، يجد العاملون في القطاع الصحي أنفسهم أمام خيارات صعبة، فكل وحدة دم تُوزع بعناية بالغة بين الجرحى والمرضى المزمنين، في محاولة لإنقاذ أكبر عدد ممكن ضمن واقعٍ طبيٍّ ينهار ببطء.

نداءات استغاثة

وزارة الصحة الفلسطينية أطلقت عدة نداءات عاجلة للتبرع بالدم، لكنها واجهت صعوبات كبيرة. فالكثير من المواطنين يعانون من ضعفٍ جسدي وسوء تغذية يمنعهم من التبرع، وبعضهم نازحون فقدوا القدرة على الوصول إلى مراكز التبرع الآمنة.
يقول ياسر معمر أحد موظفي بنك الدم لـ "البوابة 24": “نعمل بأجهزة متهالكة ووقود محدود. حتى الكهرباء تنقطع خلال عمليات سحب الدم أحيانًا، ومع ذلك نحاول أن نستمر لأن أي وحدة دم قد تنقذ حياة.”
ورغم كل المحاولات، ما زال الواقع قاسيًا، فالحرب التهمت الموارد، والاحتياجات تتضاعف كل ساعة، والمرضى ينتظرون ما لا يأتي.

وقال إبراهيم عبدالله، منسق جمعية مرضى الثلاسيميا في قطاع غزة، في مقطع مصور: "يبلغ عدد مرضى الثلاسيميا في القطاع حاليًا نحو 240 مريضًا، بعد أن فقدنا خلال حرب الإبادة 46 مريضًا، كان آخرهم زميلتنا آية سكيك من شمال غزة. من بين هؤلاء، استُشهد 12 مريضًا جراء القصف الإسرائيلي المباشر، فيما توفي 34 آخرون بسبب تدهور أوضاعهم الصحية نتيجة غياب العلاج وسوء التغذية ونقص وحدات الدم."

وأضاف: "مرضى الثلاسيميا يعيشون اليوم وضعًا مأساويًا؛ وحدات الدم غير متوفرة بشكل دائم، والمستشفيات تطلب من المرضى إيجاد متبرعين بدلاء، وهو أمر يفوق قدرتهم، خاصة في ظل النزوح والتشريد وسوء الظروف المعيشية داخل الخيام."

وتابع عبدالله: "نطالب جميع المؤسسات المحلية والدولية بالتحرك العاجل لتوفير العلاج والأدوية الخاصة بمرضى الثلاسيميا، وتأمين وحدات دم منتظمة لهم. هناك مرضى حاولوا السفر للعلاج في الخارج، لكن إغلاق المعابر حال دون ذلك. نأمل أن يجد صوتنا صدى، وأن تتحرك الجهات المختصة لإنقاذ هذه الفئة التي تواجه الموت بصمت."

في غزة، لا يُقاس الزمن بالساعات بل بالوحدات المتبقية من الدم، ولا تُحتسب الحياة بالأيام بل بالقدرة على الصمود في وجه النقص والعجز. مرضى الثلاسيميا لا يطلبون سوى حقهم في العلاج، في الحياة، في أن لا يكونوا ضحايا إضافيين لحربٍ لا تفرق بين الجسد والسلاح. وبين نداءات الأمهات وصمت الأجهزة، يبقى السؤال معلقًا: هل من يستجيب قبل أن تُطفأ آخر قطرة أمل؟

البوابة 24