بقلم: د. نهاد رفيق السكني – باحث في علوم الوراثة والمعلوماتية الصحية
مقدمة: من حلم الخلود إلى مشروع إعادة الخلق منذ أن أدرك الإنسان هشاشته أمام الموت، وهو يحلم بتجاوزه. بدأ الحلم بدعواتٍ وأساطير، ثم صار مشروعًا علميًا حين تعلّم الإنسان كيف يقرأ الشفرة الوراثية. اليوم، لم يعد العلماء يسعون إلى علاج المرض فحسب، بل إلى إعادة تعريف معنى الإنسان نفسه — جسدًا، وذاكرةً، وقدرةً على البقاء. لقد دخلنا زمنًا أصبح فيه "خلق الحياة" تجربةً مخبرية، لا معجزةً أسطورية.
ما بعد الجينوم: الثورة التي غيّرت قواعد اللعبة في عام 2003، أعلن العلماء فكّ خريطة الجينوم البشري، معلنين بداية عصرٍ جديد. فقد تحوّل الجين من سرٍّ غامض إلى مادةٍ قابلة للتحرير. ثم جاءت تقنية CRISPR-Cas9 لتمنح الإنسان أداةً جراحية دقيقة لتعديل أي جين في أي خلية، بل في الأجنّة قبل الولادة. صار في مقدور العلماء اليوم أن يُصلحوا الطفرات المسببة للأمراض، أو يعزّزوا الصفات الوراثية كالذكاء والمناعة والعمر الطويل. وهكذا لم يعد السؤال: “هل يمكننا؟” بل “إلى أي مدى سنجرؤ؟”
الإنسان كـ "مشروع قابل للتحسين" في مختبرات الصين والولايات المتحدة، تُجرى تجارب حقيقية على أجنّة معدّلة وراثيًا. الهدف المُعلن: مكافحة الأمراض الوراثية. لكن الهدف الضمني: تحسين الإنسان نفسه. الحديث لم يعد عن مريضٍ يُعالج، بل عن “إنسان يُعاد تصميمه”. قد تُزرع له خلايا دماغية مقاومة للشيخوخة، أو جينات تمنحه تركيزًا أعلى وقدرةً بدنية أكبر. ومع كل تجربةٍ جديدة، تتقلّص الحدود بين ما هو طبيعي وما هو مصنّع.
ما بين الطموح والغطرسة العلم الذي نشأ لفهم الحياة، بدأ يتعامل معها كـ منتجٍ يمكن تحسينه. هذه النزعة نحو الكمال العلمي تُشبه في جوهرها نزعة السيطرة المطلقة؛ فكلما ازداد الإنسان علمًا، ازداد وهمه بأنه قادر على إعادة الخلق وفق مشيئته. إنها ليست رغبة في التطور فقط، بل ميل خفي إلى تجاوز حدود الطبيعة — إلى أن يصبح الإنسان هو "النسّاخ" بدلاً من "المخلوق".
التكنولوجيا كمرآة للإنسان ربما لا يصنع المختبر إنسانًا جديدًا بقدر ما يكشف الإنسان القديم فينا: فضولنا، طموحنا، وغرورنا. فنحن نطارد الخلود لأننا نخاف النقص، ونُعدّل الجينات لأننا نكره الهشاشة. لكن هل سيبقى “الإنسان القادم من المختبرات” إنسانًا؟ هل من يمتلك جيناته مخبريًا، يمكنه أن يحتفظ بإنسانيته وجدانه وإرادته؟
بين الأمل والخطر من الإنصاف القول إن هذه الثورة ليست كلها ظلامًا؛ فالهندسة الوراثية قد تُنقذ الملايين من أمراضٍ مميتة، وتفتح آفاقًا مذهلة في الزراعة والطب وعلم الأعصاب. لكنها أيضًا تفتح الباب أمام خللٍ أخلاقي غير مسبوق، حيث يمكن أن يُخلق “إنسان على الطلب”، أو “مجتمع من النخبة الوراثية”. عندها لن يكون الصراع بين الفقراء والأغنياء فقط، بل بين "الطبيعيين" و"المعدّلين".
خاتمة: على حافة الخلق “الإنسان القادم من المختبرات” ليس خيالًا علميًا بعد الآن. إنه صورة مستقبلٍ تتشكّل الآن في أنابيب الزجاج ومراكز الأبحاث. ربما سنكسب أمراضًا أقل وأعمارًا أطول، لكننا قد نفقد شيئًا أعمق: سرّ الضعف الإنساني الذي يجعلنا بشرًا. فالعلم يمدّنا بالأدوات، لكنّ الوعي وحده يحدد الطريق. وما بين الرغبة في الإتقان والخوف من الغرور، سيبقى السؤال قائمًا: هل سنعرف يومًا كيف نخلق… دون أن نفقد معنى الحياة؟
