غزة/ البوابة 24- سماح شاهين:
كانت كثيرة الكلام، لكن منذ ما جرى لها قبل عامين، لم تعد تنطق، تكتفي بالإشارة فقط." بهذه الكلمات تختصر والدة الطفلة سما الددة ما لم تستطع الكلمات أن تشرحه. وسما ليست وحدها، فالكثير من أطفال غزة فقدوا أصواتهم تحت وطأة الحرب والصدمة.
صدمة البداية
تروي والدة الطفلة سما الددة بصوتٍ يختنقه الوجع: "في السابع من كانون الأول/ديسمبر 2023 كنا محاصرين داخل مدرسة مسقط في شارع يافا، أكثر من ثلاثمئة مدني ننتظر ما قالوا إنه إخلاء. أمر الجنود الرجال بالخروج أولًا، ثم أطلقوا النار عليهم أمامنا. كان زوجي بينهم... رأيته يسقط ولم أستطع الاقتراب.
حاولت ابنتي الكبرى أن تجرّ والدها بعيدًا، فقنصها الجنود. نزفت ساعات طويلة أمام عيني، ولم أقدر أن أفعل شيئًا. بعد ذلك أجبرونا على النزوح، واعتقلوا بقية الرجال، وكان أولهم ابني الأكبر. في الطريق اكتشفت أن سما لم تكن معنا.
عدت إلى المدرسة ثلاثة أيام وأنا أستجديهم أن يسمحوا لي بالدخول. في اليوم الثالث وافقوا. وجدتها هناك، جالسة تحت جدار، ثيابها متسخة، وجهها شاحب، تحدق في الفراغ. كانت ثلاثة أيام بلا طعام ولا ماء.
من تلك اللحظة لم تعد تتكلم. لم تبكِ، لم تصرخ، فقط تشير بيديها لتطلب ما تريد، وتطرق صحنها لتأكل وكوبها لتشرب. كأن صوتها رحل مع كل ما فقدناه."
كنان.. صمت في خيمة النزوح
في خيمة صغيرة وسط مدينة غزة، تجلس والدة الطفل كنان دياب، السبع سنوات، تنظر إليه وهو يحدّق بصمت في الوجوه من حوله، كأن الحرب سرقت منه صوته كما سرقت طفولته.
تقول الأم لـ"البوابة 24": "كان كنان ينطق ببعض الكلمات البسيطة، لكن مع القصف المتواصل والنزوح ونقص العلاج، بدأ صمته يزداد حتى فقد النطق تمامًا."
توضح أن طفلها يعاني من تأخر في النمو العقلي وأمراض أخرى تفاقمت بسبب انقطاع العلاج وسوء التغذية، حتى بات عمره العقلي لا يتجاوز عامين ونصف.
تتابع: "لم نعد نجد الحليب الخاص به ولا الأدوية التي يحتاجها يوميًا، وكل ما أتمناه أن يسمع صوتي ويردّ عليّ كما كان يفعل من قبل."
داخل الخيمة التي لا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء، يعيش كنان مع عائلته في ظروف قاسية، تحوّل فيها الصمت إلى لغة فرضتها الحرب. ورغم محاولات الأم المتواصلة لمساعدته على النطق من جديد، إلا أن غياب الرعاية الطبية والنفسية يجعل الأمل يتراجع يومًا بعد يوم.

يامن.. الخوف يُخرس الكلمات
في دير البلح، تجلس هيا المطوق إلى جوار طفلها يامن، خمس سنوات ونصف، تحاول أن تهمس له بكلمات تشجعه على الكلام، لكن الصمت يملأ المكان.
تقول لـ"البوابة 24": "منذ الأيام الأولى للحرب، عندما بدأت الغارات على جباليا، كان صوت القصف مرعبًا، كان يامن يرتجف ويغطي أذنيه، ثم شيئًا فشيئًا توقف عن الكلام تمامًا."
تسترجع ما حدث وتقول إن ابنها عاش في واحدة من أكثر المناطق تعرضًا للقصف، ومع كل انفجار كان يفقد جزءًا من طمأنينته حتى فقد النطق كليًا.
تضيف: "نزحنا إلى دير البلح، وهناك بدأت أحاول علاجه بنفسي. كنت أحتضنه كثيرًا وأحاول أن أجعله يشعر بالأمان، لكن أي صوت عالٍ يعيده إلى لحظة الخوف الأولى، فيصرخ ويغطي أذنيه."
تتوقف هيا للحظة، تنظر إلى طفلها الذي يرسم دوائر على الأرض، ثم تهمس: "كل ما أريده أن أسمع صوته من جديد، أن يناديني (ماما) كما كان يفعل قبل الحرب."

مالك.. إصابة سرقت صوته
في خيمة مهترئة بمواصي خان يونس، تجلس والدة مالك العجب إلى جانب طفلها الذي فقد النطق والحركة بعد إصابته بشظايا في الرأس خلال إحدى الغارات الإسرائيلية في 7 حزيران/يونيو 2025.
تقول الأم لـ"البوابة 24": "منذ إصابة مالك، لم يعد كما كان. الشظايا التي استقرت في رأسه أثّرت على قدرته على الكلام، وعلى بصره وحركته. يبكي طوال الوقت، ولا نستطيع أن نعرف ما يريد. أحيانًا لا يأكل ولا يشرب إلا بعد محاولات عديدة."
وتوضح أنها وزوجها يبذلان جهدًا كبيرًا للاعتناء به، رغم غياب الرعاية الصحية وصعوبة الأوضاع داخل المخيم: "لا توجد مستشفيات ولا مراكز متخصصة، ونحن نحاول أن نعامله بالحنان والصبر، لكن الألم كبير عليه وعلى جميع أفراد الأسرة."
ويزداد العبء على العائلة مع إصابة الابن الأكبر بإعاقة حركية نتيجة قصف سابق، ما جعل الأم تشعر بعجز كامل: "أصبح البيت كله غارقًا في الوجع، لكن لا خيار أمامنا سوى التحمل والصبر. أتمنى فقط أن أسمع مالك ينطق بكلمة واحدة."

آثار نفسية عميقة
توضح أخصائية النطق د. شيرين البزم أن الحرب الأخيرة خلّفت آثارًا نفسية وعصبية عميقة لدى الأطفال، حيث فقد كثيرون منهم القدرة على الكلام إثر إصابات مباشرة في الدماغ أو نتيجة صدمة نفسية شديدة ناجمة عن الخوف أو المشاهد المروّعة التي عايشوها.
وتقول البزم لـ"البوابة 24": "نبدأ دائمًا بالدعم والتأهيل النفسي قبل أي علاج لغوي، فالأطفال بحاجة أولاً لتجاوز الصدمة واستعادة الشعور بالأمان قبل أن نساعدهم على النطق من جديد."
وتصف الوضع النفسي لهؤلاء الأطفال بأنه غاية في الصعوبة، إذ يعاني العديد منهم من القلق الدائم والانطواء والعدوانية، خصوصًا من فقدوا أحد أفراد أسرهم أو تعرّضوا لإصابات جسدية ونفسية مباشرة.
وتشير إلى أن بعض الأطفال الذين انتُشلوا من تحت الركام فقدوا النطق تمامًا، بينما أصبح آخرون غير قادرين على التواصل بعد فقدهم ذويهم، أو أصيبوا إصابات دماغية أفقدتهم القدرة على الكلام بشكل دائم.
وتلفت إلى أن جهود العلاج تواجه صعوبات كبيرة بسبب نقص الأجهزة والأدوات الطبية اللازمة، إلى جانب غياب الدعم النفسي المنظم للأطفال في ظل استمرار الحصار والدمار الواسع في القطاع.
وتتزايد هذه الحالات يومًا بعد يوم مع استمرار الحرب وتفاقم الظروف الإنسانية.
وتختم البزم بالقول: "نحن نتعامل مع جيلٍ كامل يعيش صدمة حرب لم تنتهِ بعد، أطفال حُرموا من الأمان، ومن القدرة على التعبير عن أنفسهم حتى بالكلمات."
صمت الحرب
بحسب تقديرات أولية لمؤسسات عاملة في مجال الصحة النفسية، فإن مئات الأطفال في غزة أُصيبوا باضطرابات نطق ونفسية منذ بدء الحرب، بعضها يحتاج إلى تدخل عاجل، فيما يظل معظمهم بلا علاج. في ظل غياب الرعاية الطبية والنفسية، يبدو أن الصمت صار لغة أطفال الحرب، يختزن ما لا تُقله الكلمات.
