أثارت الرحلة الجوية غير المباشرة التي انطلقت من مطار "رامون" الإسرائيلي نحو مطار "جوهانسبرغ" في جنوب أفريقيا، مرورًا بأحد مطارات القارة، وتحمل عشرات الفلسطينيين من قطاع غزة—معظمهم عائلات كاملة—العديد من التساؤلات حول الجهة المنظمة لهذه الرحلة وارتباطها المحتمل بمخطط إسرائيلي لتهجير السكان، خاصة وأن هذه ليست أول رحلة تنفذها الجهة نفسها لإخراج الغزيين إلى الخارج.
تهجير صامت خلف ستار المساعدات
وفي هذا السياق نتحدث عن مؤسسة تعرف باسم "المجد أوروبا"، التي بات اسمها شائعًا في غزة عبر موقع إلكتروني يقصده آلاف السكان الذين طحنهم القصف والنزوح والدمار، ولا يعرف على وجه الدقة من يقف وراء المؤسسة، إلا أن كثيرين يتناقلون شكوكًا واسعة حول ارتباطها بإسرائيل وسعيها لتطبيق "خطة التهجير الصامت" بعيدًا عن الأنظار.
والجدير بالإشارة أن الصفحة الرسمية للمؤسسة تبدأ بتحذيرات من عمليات احتيال، ثم تروج لنفسها كلجنة إجلاء إنساني لا تتلقى أموالًا إضافية للتسريع، وتؤكد أن التسجيل يتم فقط عبر رابطها الرسمي، ورغم ذلك، فإن الأسماء التي تعرض للتواصل تظهر فقط الأسماء الأولى، ما يثير شبهة كونها أسماء وهمية.
الهجرة مقابل المال.. واقع يكشف المستور
ومن جهته، يروى "أحمد"–اسم مستعار–لـ"القدس العربي"، أنه تواصل مع المؤسسة لإخراج أسرته من غزة بعد أن علم أن الرحلات الأولى كانت "مجانية"، لكن الطلبات الحالية تتضمن دفع مبالغ مالية كبيرة، ووفق شهادات مواطنين سجلوا عبر المؤسسة، تراوح سعر "تنسيق السفر" بين 1000 و2700 دولار، ووصل لدى البعض إلى 5000 دولار مقابل تسريع الإجراءات.
وأكد "أحمد"، إن خوفه على أفراد من أسرته يعيشون النزوح القاسي داخل غزة، وخشيته من فقدانهم جراء الهجمات الإسرائيلية الدامية، دفعاه إلى تدبير مبلغ مالي، والتفاهم عبر رسائل واتساب مع أحد المنظمين على دفع بقية المبلغ عند إتمام عملية السفر، وقد تلقى وعدًا بأن تُنجز إجراءات السفر قريبًا، بعد أن فشلت محاولاته لضم أفراد أسرته إلى من جرى إخراجهم مؤخرًا إلى جنوب أفريقيا.
شهادة مسافر خرجت عائلته
كما تحدث أحد الأشخاص الذين أجليت عائلتهم إلى جنوب أفريقيا، تحدث هذا الشخص شارحًا ما جرى معه منذ البداية، قائلاً: "تواصلت بالطريقة الرسمية مع المؤسسة عبر صفحتها الإلكترونية، وقمت بتعبئة الطلب المرفق"، ويتابع: "بعدها تلقيت رسالة بالموافقة المبدئية، وطلب مني دفع مبلغ مالي".
وأشار إلى أنه تواصل لاحقًا مع أحد الأشخاص المعروفين بالعمل مع المؤسسة، وتمت عملية التحويل، قبل أن يبلغ قبل يومين من موعد السفر بالاستعداد للمغادرة، مضيفًا: "قبل يوم السفر جاء اتصال يخبرنا بمكان التجمع، وهناك استقلت العائلة الحافلة مع آخرين، وانطلقنا من النقطة الأولى".
طرق السفر
غالبًا يجمع السكان في إحدى المناطق الواقعة وسط القطاع، وتتبع مؤسسة "المجد أوروبا" الإجراءات نفسها المعمول بها في عمليات الإجلاء التي يوافق عليها الجانب الإسرائيلي وتشمل المرضى والطلبة، والأشخاص الذين لديهم أقارب من الدرجة الأولى في دول أوروبية.
كما يجري التأكد من أسماء المسافرين وفق الكشف المرسل بالموافقة من إسرائيل، ثم تنطلق الحافلات بإشراف طواقم الصليب الأحمر إلى معبر كرم أبو سالم، عند الحدود الجنوبية الشرقية لقطاع غزة، حيث تسيطر قوات الاحتلال بالكامل على المعبر.
ومن هناك، وبعد التحقق من الهويات، ينقل السكان إلى مطار رامون، وليس كما جرت العادة بنقل المرضى والطلاب إلى الأردن، ليتم بعدها نقل كل مسافر جوًا إلى وجهته النهائية.
غياب التنسيق الرسمي
ويقول الرجل الذي سافرت عائلته مؤخرًا في الرحلة المتجهة إلى جنوب أفريقيا إنه انتابه قلق شديد بعد انكشاف تفاصيل الرحلة، وتأخر منح الركاب إذن الدخول إلى جوهانسبرغ، ما كشف أن المؤسسة لم تكن تجري أي تنسيق رسمي كما كانت تدعي، وأنه كان يخشى على مصير أفراد عائلته، خصوصًا الأطفال.
ويؤكد، مثل سواه، أن الخوف من الموت وقسوة الحياة التي فرضتها الحرب الطويلة هي ما أجبره على اختيار هذا الطريق.
لغة عاطفية تستغل المعاناة
كما تعتمد المؤسسة في موقعها الإلكتروني، وبعد صفحة تحذير من عمليات النصب، على عبارات عاطفية ولافتات براقة، ففي أولى صفحاتها تظهر عبارة "الإجلاء الإنساني"، وتتبعها بقولها "لأهل غزة الصامدين، لستم وحدكم".
ثم تضيف: "في ظل القصف، وتحت الأنقاض، هناك من ما زال يؤمن أن الحياة تستحق فرصة أخرى، جئنا لنمد يد العون، ونفتح لكم بابًا نحو الأمان"، في محاولة لاستقطاب السكان عبر الخطاب العاطفي.
تعريف المؤسسة المزعوم
وفي السياق ذاته، تعرف المؤسسة نفسها بأنها "منظمة إنسانية تأسست عام 2010 في ألمانيا"، وتقول إنها متخصصة في تقديم الإغاثة للمجتمعات المسلمة في مناطق النزاعات، وإن مقرها الرئيسي في القدس، وإنها عملت في دول عدة لتقديم المساعدات للمحتاجين، مركزة خلال العام الماضي على دعم سكان غزة، مؤكدة أن خدمة السفر متاحة حاليًا فقط للسكان داخل القطاع.
شكوك واسعة تحيط بالنشاط
إلا أنه لم يتمكن أحد من تأكيد وجود مقر حقيقي للمؤسسة في مدينة القدس، كما يخلو موقعها الرسمي من أي صور لطواقمها أو نشاطاتها السابقة، ولا توضح مصادر تمويلها رغم ادعائها الطابع الإنساني، الأمر الذي يزيد الشكوك حولها.
ويشير البعض إلى أنها لم تنفذ سابقًا أي عملية إجلاء من مناطق نزاع، وأن نشاطها بدأ فقط داخل غزة.
ومن جانبه، أكد مسؤول في جهة دولية عاملة داخل القطاع لـ"القدس العربي"، أن عمليات التنسيق لأسماء المسافرين ترسل مباشرة من الجانب الإسرائيلي إلى الجهة المكلفة بذلك داخل غزة، ما يعزز الشكوك في أهداف المؤسسة وارتباطها بخطط إسرائيل لـ"تهجير" المدنيين.
رحلة جنوب أفريقيا تكشف المستور
وأوضحت "المؤسسة"، عبر صفحتها أن وجهات السفر تختلف حسب معايير كل متقدم، وأن فريقها يحدد الوجهة الأنسب وفق الجوانب الإنسانية واللوجستية، لكن ما جرى في الرحلة الأخيرة إلى جنوب أفريقيا، التي ضمت 153 مواطنًا بينهم أطفال، كشف عدم مصداقيتها، بعد أن احتجزت شرطة الحدود المسافرين لساعات بسبب عدم وجود أختام مغادرة إسرائيلية على جوازاتهم.
رحلات بلا مسؤولية واضحة
وفي سياق متصل، يتحدث أحد الأشخاص الذين أجلِيت عائلتهم قائلاً: "تواصلت عبر الصفحة الإلكترونية، وتلقيت موافقة، ثم طلب مني المال، وبعد التحويل أبلغت بالاستعداد للمغادرة".
وفي خضم الأزمة، قال رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا إن المسافرين "أرسلوا بطريقة غامضة على متن طائرة مرت بنيروبي ووصلت إلى هنا"، موضحًا أن بلاده استقبلتهم بدافع إنساني وأن التحقيق في كيفية وصولهم مستمر.
ويشار إلى أن هذه الرحلة تعتبر الثانية خلال أقل من شهر، بعد رحلة أولى وصلت في 28 أكتوبر الماضي وعلى متنها 176 فلسطينيًا. وقد جرى توجيه المسافرين حينها فور وصولهم عبر رسائل واتساب إلى سيارات أوبر على نفقتهم الخاصة، لنقلهم إلى فنادق وبيوت ضيافة متواضعة لمدة 7 أيام، قبل أن تختفي الجهة المنظمة وتتركهم لمصيرهم.
علامات استفهام حول الوجهات
ويتساءل كثيرون عن أسباب نقل المسافرين إلى جنوب أفريقيا بدلاً من إندونيسيا، ما يعزز تكهنات بأن الدولة الأخيرة ربما رفضت التعامل مع المؤسسة بعد انكشاف أمرها.
كما تبين أن إسرائيل، التي سهلت خروج المسافرين ونقلتهم إلى مطار رامون، لم تضع أي أختام على وثائق سفرهم، وهو ما يثير علامات استفهام حول مخطط يمنع عودتهم لاحقًا، لعدم امتلاكهم إثباتًا رسميًا على مغادرتهم.
تحذيرات رسمية
وبدوره، أكد مصدر فلسطيني مطلع، أن الطواقم الرسمية التابعة للسلطة الفلسطينية لم يكن لها أي دور في سفر هؤلاء المواطنين، موضحًا أن التنسيق بين غزة وإسرائيل توقف منذ بداية الحرب، وأن السفر يجري فقط عبر جهات دولية وإغاثية، مضيفًا أن هناك حالات سفر تتم بناءً على طلب إسرائيلي مباشر من منظمات دولية للإشراف على حركة الحافلات من غزة إلى المعبر.
كما أصدرت جهات فلسطينية رسمية تحذيرات من هذه الرحلات "المشبوهة"، فقد قالت سفارة فلسطين في جنوب أفريقيا إن الجهة التي رتبت السفر "غير مسجلة ومضللة"، استغلت الظروف المأساوية للعائلات وخدعتها ماليًا ونظمت سفرها بطرق غير قانونية ثم تخلت عن مسؤولياتها.
فيما حذرت وزارة الخارجية الفلسطينية الشركات والكيانات التي تشجع على "الترحيل والتشريد" واستغلال الوضع الإنساني، مؤكدة أنها لن تتسامح معها، داعية سكان القطاع إلى "توخي الحذر وتجنب الوقوع فريسة لشبكات الاتجار بالبشر وتجار الدم ووكلاء النزوح".
وأوضحت غرفة العمليات الحكومية للتدخلات الطارئة في غزة أن الفترة الأخيرة شهدت ازدياد نشاط جهات غير قانونية "تخدع المواطنين وتجمع مبالغ مالية بطرق غير مشروعة، وتنسق سفرًا عبر مسارات غير آمنة قد تعرضهم لمخاطر قانونية وإنسانية"، وطالبت بالإبلاغ عن هذه الجهات.
