غزة/ البوابة 24- ميسون كحيل
في خيمة صغيرة وسط دير البلح، تحاول منال حسن، النازحة من مدينة غزة، أن تدير حياتها بما توفر لها من إمكانات بسيطة. فرن بدائي من البلاستيك والكرتون أصبح وسيلتها الوحيدة للطهي، لكنه يملأ المكان بالدخان الكثيف ويحوّل التنفس إلى مهمة شبه مستحيلة.
تقول منال بصوت متعب: "جهاز الاستنشاق الذي حصلت عليه من الأونروا هو حياتي". ومع كل نوبة اختناق، يهرع أبناؤها لنقلها إلى المستشفى، حيث يساعدها الجهاز على استعادة أنفاسها، بينما يبقى الدواء الآخر بعيد المنال بسبب ارتفاع أسعاره.
ورغم قسوة الظروف، تحاول منال أن تحافظ على تماسك أسرتها داخل المخيم. أبناؤها يتناوبون على جمع الكرتون والبلاستيك لإبقاء النار مشتعلة، فيما يحرصون على مراقبة والدتهم خوفًا من أن يداهمها الاختناق في أي لحظة.
ماجدة أحمد، نازحة أخرى، كانت تعاني قبل الحرب من التهابات الجيوب الأنفية، وكانت تتناول قرصًا دوائيًا أسبوعيًا فقط. مع اشتداد القصف وتراكم الغبار والدخان، ازدادت حالتها سوءًا وأصبحت مضطرة لتناول الأقراص يوميًا. وتوضح: "كل موجة غبار أو حريق داخل الخيمة تجعل التنفس صعبًا، ويزداد الإرهاق بشكل كبير".
هذه الحالات الفردية تعكس أزمة أوسع، إذ أن غياب الرعاية الطبية المنتظمة ونقص الأدوية يجعل آلاف المرضى في غزة يعيشون ظروفًا مشابهة، ما يزيد من معاناة الفئات الأكثر ضعفًا، مثل الأطفال وكبار السن وذوي الأمراض المزمنة. وكل ذلك يعود في جوهره إلى تداعيات الحرب التي خلّفت هواءً ملوثًا بالركام والدخان والمواد السامة، ما فاقم أمراض الجهاز التنفسي وزاد من نوبات الاختناق لدى المرضى.
تفاقم الأمراض التنفسية وانتشارها
توضح الدكتورة علا النجار، مديرة دائرة الأمراض المزمنة في وزارة الصحة، أن الحرب تسببت في تدمير قاعدة بيانات المرضى وتعطيل منظومة المتابعة الطبية، ولم يبقَ سوى خمس عيادات عاملة من أصل 14 في محافظة غزة، ما جعل الحصول على الأعداد الدقيقة صعبًا للغاية.
ومن جانبه، يشير محمد أبو سلمية، مدير مجمع الشفاء الطبي، إلى أن نحو 350 ألف مريض بحاجة لأدوية للأمراض المزمنة، مع تسجيل زيادة كبيرة في حالات الربو نتيجة الغبار والركام الناتج عن الدمار.
ويضيف الدكتور أحمد الربيعي، استشاري الباطنة والصدرية، أن غياب أجهزة الحاسوب واللاب توب في المراكز الطبية يحول دون توفر إحصائيات دقيقة حول أمراض الجهاز التنفسي، الأمر الذي يعقد جهود المتابعة والعلاج في ظل الظروف الراهنة.
ويشرح الربيعي أن أكثر الأمراض التي رُصدت خلال الحرب تشمل التهابات الشعب الهوائية، زيادة حالات الإنفلونزا، التهابات الجيوب الأنفية، وارتفاع غير مسبوق في معدلات الإصابة بالربو. ويضيف أن التعرض المستمر للهواء الملوث أدى إلى زيادة أعداد مرضى الربو والتليف الرئوي، وظهور أعراض جديدة مثل الالتهاب الرئوي الحاد المقاوم للمضادات الحيوية، ما يضطر الأطباء إلى وصف أكثر من كورس علاجي أو اللجوء لمضادات الحساسية.
ويشير إلى أن الفئات الأكثر عرضة للتأثر من تلوث الهواء هي الأطفال وكبار السن والمرضى المزمنون، وأن تكرار التعرض للركام والدخان يزيد من دخول المستشفى، ويضاعف الحاجة إلى البخاخات والأكسجين، مع ارتفاع احتمالية الوفاة في بعض الحالات الحرجة. هذه المعاناة الصحية اليومية ليست معزولة، إذ ترتبط مباشرة بالبيئة الملوثة التي خلّفتها الحرب.
من الأزمة الصحية إلى الأزمة البيئية
هذه الأمراض ليست معزولة عن محيطها؛ فسببها المباشر هو الانبعاثات السامة الناتجة عن القنابل والدمار من جهة، وانعدام البنى التحتية ونظم معالجة النفايات والركام من جهة ثانية، ما حوّل الوضع الصحي إلى أزمة بيئية أعمق وأكثر تعقيدًا.
الأزمة البيئية وتأثيرها طويل الأمد
يحذّر الدكتور عبد الفتاح عبد ربه، أستاذ علوم البيئة في الجامعة الإسلامية، من التداعيات الخطيرة للملوثات الناتجة عن القصف والانفجارات. ويوضح أن بعض المواد المنبعثة خطرة للغاية، مثل:
الديوكسين والفيوران: مركّبات سامة ومسرطنة، تتكون عند احتراق البلاستيك والمواد الصناعية.
ألياف الأسبستوس: تنتج عن تهدم المنازل القديمة التي كانت جدرانها و"طرش الحيط" تحوي هذه المادة، واستنشاقها قد يؤدي إلى تليّفات رئوية وسرطانات.
أكاسيد الكربون والنيتروجين: تزيد الالتهابات التنفسية وتؤثر على القلب والأوعية الدموية.
ويشير إلى أن الدخان والركام والنفايات الصلبة والبلاستيك يضاعفون المخاطر الصحية، وقد يؤدي ذلك إلى أمراض صدرية وقلبية وجلدية وعينية، فضلًا عن احتماليات الإصابة بالسرطان نتيجة تراكم المواد الكيماوية والإشعاعات. بعض القذائف قد تحتوي على اليورانيوم المخصب، ما يزيد المخاطر الإشعاعية.
ولا تقتصر آثار الحرب على تلوث الهواء فقط، بل تشمل عناصر البيئة كافة. فقد أدى دمار شبكات المياه والمجاري إلى تسرب ملوثات خطيرة إلى التربة ومصادر المياه، فيما يسهم وجود نحو 30 إلى 40 مكبًا عشوائيًا للنفايات في تعزيز خطر تلوث المياه الجوفية بالعصارات الكيميائية. كما أن فقدان الغطاء النباتي حرم البيئة من قدرتها الطبيعية على امتصاص الملوثات.
حجم الدمار البيئي والبشري
تشير تقديرات برنامج الأقمار الصناعية التابع للأمم المتحدة (أونوسات) إلى أن الحرب حتى يوليو 2025 تسببت في تدمير أو تضرر نحو 193 ألف مبنى، أي 78% من مباني غزة قبل الحرب، مع تراكم نحو 61.5 مليون طن من الركام — بمتوسط 169 كغم لكل متر مربع من مساحة القطاع.
ويُعتقد أن 4.9 مليون طن من الأنقاض ملوثة بالأسبستوس، إضافة إلى 2.9 مليون طن من مخلفات مواقع صناعية تحتوي مركبات سامة، وفق برنامج الأمم المتحدة للبيئة، ما يعني أن البيئة أصبحت خزّانًا مفتوحًا للغازات السامة والمعادن الثقيلة. هذه المواد تتميز بقدرتها على البقاء لفترات طويلة دون تحلل، وتدخل السلسلة الغذائية عبر النبات والحيوان، ما يضاعف احتمالات الإصابة بالأمراض المزمنة والسرطانات.
آثار الحرب على القطاع الصحي
مع هذا الحجم من التلوث، يقف القطاع الصحي على حافة الانهيار. فدمار المستشفيات والعيادات وتضرر المستودعات الطبية خلق فجوة هائلة في القدرة على تقديم الخدمات. يقول الدكتور الربيعي: "نضطر لاستخدام بدائل أقل فعالية، ما يؤدي إلى تكرار النوبات وزيادة دخول المرضى إلى المستشفيات، وفي بعض الحالات إلى الوفاة".
النقص الحاد في الأدوية والموارد، إلى جانب الزيادة الكبيرة في حالات الاختناق والربو والالتهابات التنفسية، جعل الرعاية الصحية المنتظمة شبه مستحيلة، بينما تتفاقم الحاجة للبخاخات والأكسجين والعلاجات الخاصة بالصدر. ومع ارتفاع أعداد المصابين بالأمراض المزمنة والحرجة، يزداد الضغط على الطواقم الطبية في وقت تفتقر فيه المنظومة الصحية إلى المعدات الأساسية والبنية التحتية.
