على مدار أشهر طويلة ظلت جنين (ب)، وهي إحدى سكان دير البلح وسط قطاع غزة، على تواصل متواصل مع القائمين على إعلان ممول ينتشر عبر منصات "السوشيال ميديا"، يروج للهجرة من القطاع نحو الخارج، كان الإعلان يحدد الوجهة بـ"أوروبا" تحديداً، في محاولة لجذب الغزيين الباحثين عن خلاص من أهوال الحرب التي لم تتوقف منذ عامين.
وقد ظهر الإعلان عبر "فيسبوك" حمل اسم مؤسسة "المجد أوروبا"، وهي جهة غير معروفة في غزة، ما أثار كثيراً من الشكوك حول مصداقيتها، ومع ذلك، لجأ البعض إلى التواصل عبر رقم "واتساب" المرفق أملاً في العثور على بارقة أمل، وسط الظلام الذي يفرضه القصف اليومي.
رحلة غامضة مخفوفة بالكتمان
والجدير بالإشارة أن الوصول إلى أحد المسافرين الذين خاضوا تجربة الهجرة عبر هذه المؤسسة لم يكن سهلاً، نظراً لحالة السرية التامة التي ترافقت مع خروجهم من القطاع في ظل ظروف أمنية معقدة، إضافة إلى عدم ثبات أوضاعهم القانونية في البلدان التي وصلوا إليها، عبر سلسلة علاقات وثقة عائلية، تمكنت جنين من الحديث معنا عبر "واتساب" بحذر شديد، رافضة الكشف عن هويتها الكاملة خوفاً من الملاحقة في الدولة التي تعيش فيها حالياً.
وفي هذا الإطار، تروي جنين لصحيفة "الشرق الأوسط"، أنها ترددت كثيراً قبل التواصل مع الرقم المعلن، لكنها قررت المجازفة بعد التأكد من أن المحادثة تتم مع أشخاص يستخدمون أرقاماً إسرائيلية، عندها وضعت اسمها واسم زوجها وثلاثة من أطفالها ضمن قائمة الراغبين في الهجرة، بحثاً عن حياة آمنة.
مخاوف من الاحتيال
وأكدت "جنين"، إنها كانت تخشى الوقوع ضحية عملية نصب كما حدث مع كثيرين قبيل الحرب وخلالها، لكن القائمين على الإعلان أكدوا لها أن المال "آخر ما يهتمون به"، وهو ما دفعها إلى استكمال الإجراءات، وقد بدأت عملية التسجيل بإرسال معلومات شخصية مفصلة عن جميع أفراد العائلة، ثم طلب منها لاحقاً دفع مبلغ 1500 دولار عن كل شخص، بمن فيهم الأطفال، على أن يتم الدفع بعد اكتمال الإجراءات.
تدقيق أمني شديد
كما ظلت "جنين"، تتواصل مع ممثلي المؤسسة لمعرفة موعد السفر، وكانت تتلقى تطمينات بأن العملية تسير كما ينبغي، وأن هناك "فحصاً أمنياً دقيقاً" لكل اسم تجنباً لمرور عناصر من "حماس" أو أي فصيل مصنف كإرهابي، وبعد ثلاثة أشهر ونصف من الانتظار، تلقت هي وزوجها رسالة مفاجئة تطلب منهم الاستعداد خلال ست ساعات فقط، مع جلب الأوراق الثبوتية دون أي متعلقات إضافية، وتم تحويل الأموال المطلوبة مسبقاً عبر محافظ العملات الرقمية.
وفي السياق ذاته، تسرد "جنين"، تفاصيل رحلتها التي انطلقت مع نحو 40 آخرين بحافلة صغيرة من منطقة قريبة من دير البلح، عبروا مناطق خاضعة للسيطرة الإسرائيلية، ثم نقطة عسكرية بين خان يونس ورفح، ومنها إلى معبر كرم أبو سالم، قبل أن يتم نقلهم إلى مطار رامون في النقب، لتتجه رحلتهم في النهاية إلى جنوب أفريقيا، وتشير إلى أن طائرتين مسيّرتين رافقتا الحافلة حتى نقطة العبور.
الرحلات الثلاث المثيرة
كما تؤكد شهادات فلسطينية أن مؤسسة "المجد أوروبا" نظمت ثلاث رحلات جوية من قطاع غزة بين مايو ونوفمبر 2025؛ الأولى إلى إندونيسيا وعلى متنها 57 شخصاً، والثانية والثالثة إلى جنوب أفريقيا عبر نيروبي، وجميعها انطلقت من مطار رامون.
مؤسسة بلا وجود فعلي
وتجدر الإشارة إلى أن المؤسسة نفسها تعرف على موقعها الإلكتروني بأنها "منظمة إنسانية تأسست عام 2010 في ألمانيا" وتعمل من حي الشيخ جراح في القدس، لكن زيارة ميدانية لصحافيين فلسطينيين كشفت أن العنوان يعود لمبنى مهجور، بلا أي أثر لنشاط المؤسسة.
وتقول المؤسسة إنها تركز جهودها منذ العام الماضي على دعم جرحى غزة وتسهيل سفرهم للعلاج، لكن هذه الرواية أثارت شكوكاً كثيرة.
علاقة محتملة بـ"الصحة العالمية"
أثيرت العديد من تساؤلات حول احتمال إدارة المؤسسة لرحلات إخلاء الجرحى بالتنسيق مع منظمة الصحة العالمية، مستغلة فوضى الحرب، وتؤكد مصادر أمنية في غزة أن العديد من الرحلات خلال الحرب تمت بطرق "مشبوهة"، عبر استغلال تشتت القوى الأمنية.
ومن جانبها، كشفت "هآرتس" العبرية، أن المؤسسة سلمت الجيش ووحدة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية قوائم كاملة بأسماء المسجلين عبر موقعها، وأنها مرتبطة بشركة "تالنت غلوبس" المسجلة في إستونيا، ومؤسسها إسرائيلي – إستوني، كما تنسق مع إدارة خاصة بوزارة الدفاع الإسرائيلية أنشئت مطلع العام لتسهيل "الهجرة الطوعية" من غزة، تماشياً مع مبادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
المؤسسة تدفع عن نفسها الاتهامات
كما أفادت "المؤسسة"، في بيان بتاريخ 18 نوفمبر، إنها تتعرض لحملة "تشويه كبيرة"، وإنها لا ترتبط بإسرائيل إلا عبر التنسيق اللوجستي للخروج، مؤكدة عدم علاقتها بالموساد أو أي جهاز استخباراتي.
مصير مجهول بعد الوصول
وفي سياق متصل، يروي أحمد (غ)، أحد المسافرين عبر رحلتها الثانية، أنه لم يتعرض لأي تهديد من جهة فلسطينية، لكنه تلقى تحذيرات من سفارة فلسطينية من التعامل مع المؤسسة، وبعد وصوله إلى جنوب أفريقيا، اكتشف أن المؤسسة لم تعد تتابع ملفاتهم، تاركة إياهم يواجهون مصيرهم دون دعم، فيما اضطروا للسكن في بيوت ضيافة بسيطة.
موقف حماس والسلطة
ومن جهتها، أكدت مصادر أمنية من "حماس"، إنها لم تكن تعرف بحقيقة تلك الرحلات وظنت أنهم مرضى أو أصحاب معاملات جمع شمل، وهي الآن تعمل على منع أي محاولات مغادرة مشبوهة بعد وقف إطلاق النار، أما السلطة الفلسطينية فاكتفت ببيان تحذيري ضد شبكات "التهجير والاتجار بالبشر".
ملاحقة إلكترونية وحظر أرقام
كما تتعرض المؤسسة لحملات اختراق وإجراءات قانونية، ما أدى إلى حظر أرقام "واتساب" الخاصة بها، لكنها ما تزال تعلن استمرارها وتعد بأرقام جديدة للتواصل.
رغبة مستمرة في الهجرة
وبدوره، قال الغزي نادر (ع)، البالغ 41 عاماً ومن سكان مدينة غزة، والمتزوج ولديه أربعة أطفال، فضل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، أنه كان واحداً من الذين سارعوا للتسجيل مجدداً لدى المؤسسة منذ أكثر من شهر ونصف، وما زال على تواصل مستمر مع الأرقام التي نشرتها.
حلم الخروج من الخيام
وأكد "نادر"، إن قسوة الحياة أجبرته على التفكير بالهجرة والبحث عن مستقبل أفضل له ولعائلته، معرباً عن أمله في نجاح مساعيه بالسفر وأن يحالفه الحظ كما حدث مع آخرين.
وأضاف "نادر"، قائلًا: "كل ما أريده هو الخروج من قطاع غزة إلى أي دولة، ومن هناك يمكنني المغادرة إلى أي جهة أخرى... ما يهمني فقط أن أتخلص من حياة الخيام، وأن أجد مكاناً آمناً أعيش فيه مع زوجتي وأطفالي".
