فلسطين دولة تحت الاحتلال.. والحاجة الملحّة إلى حوار وطني شامل

بقلم: المحامي علي أبو حبلة

إن توصيف فلسطين بوصفها دولةً واقعة تحت الاحتلال ليس توصيفًا سياسيًا أو خطابيًا، بل حقيقة قانونية راسخة تستند إلى قرارات الشرعية الدولية، وفي مقدمتها قرارات مجلس الأمن والاتفاقيات الدولية ذات الصلة. ويترتب على هذا التوصيف تحميل سلطات الاحتلال الإسرائيلي كامل المسؤولية القانونية كقوة احتلال، بما في ذلك مسؤولياتها تجاه السكان المدنيين والأراضي المحتلة، وفق أحكام القانون الدولي الإنساني. لقد أكدت قرارات مجلس الأمن الأخيرة بشأن العدوان على قطاع غزة، ولا سيما تلك التي دعت إلى وقف فوري لإطلاق النار، وضمان إدخال المساعدات الإنسانية دون عوائق، أن المجتمع الدولي بات أكثر وضوحًا في توصيف ما يجري على الأرض، وأن إسرائيل، بوصفها قوة احتلال، تتحمل المسؤولية الكاملة عن الكارثة الإنسانية المتفاقمة في غزة. غير أن عجز مجلس الأمن عن فرض تنفيذ قراراته، بفعل الانحياز السياسي واستخدام حق النقض، أفرغ هذه القرارات من مضمونها العملي، وحوّلها إلى مجرد بيانات إدانة لا توقف القتل ولا ترفع الحصار. وفي السياق ذاته، فإن تقاعس منظومة الأمن والسلم الدوليين عن إلزام إسرائيل باحترام القانون الدولي، سواء عبر مجلس الأمن أو عبر أطر السلم والأمن الدولية، ساهم في ترسيخ سياسة الإفلات من العقاب، وشجع حكومة الاحتلال على المضي قدمًا في سياساتها التدميرية، ليس في غزة فحسب، بل في الضفة الغربية والقدس المحتلة أيضًا. فالضفة الغربية تشهد تصعيدًا خطيرًا ومتسارعًا، يتمثل في التوسع الاستيطاني غير المسبوق، وشرعنة البؤر الاستيطانية، وتصعيد اعتداءات المستوطنين تحت حماية جيش الاحتلال، إلى جانب سياسة القتل الميداني، والاعتقالات الجماعية، وهدم المنازل، ومصادرة الأراضي، ومحاولات فرض الضم الزاحف كأمر واقع. وكل ذلك يتم في إطار سياسة ممنهجة تهدف إلى تقويض أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة، وفصل الضفة الغربية عن قطاع غزة، وعزل القدس عن محيطها الوطني. إن استمرار التعاطي مع اتفاق أوسلو، رغم انهياره العملي وتنكّر إسرائيل لالتزاماتها، لم يعد مبررًا سياسيًا ولا قانونيًا. فلا يمكن القبول ببقاء سلطة حكم ذاتي محدودة الصلاحيات تعمل تحت هيمنة الاحتلال إلى ما لا نهاية، بينما تمارس إسرائيل سيادتها الفعلية على الأرض، وتتعامل مع الأراضي الفلسطينية باعتبارها “أراضي متنازع عليها”، في مخالفة صريحة لقراري مجلس الأمن 242 و338، وللقانون الدولي الذي يقر بأن هذه الأراضي هي أراضي دولة محتلة. وتستمد دولة فلسطين شرعيتها القانونية من قرارات الأمم المتحدة، وفي مقدمتها قرار الجمعية العامة رقم 181، وقرارات لاحقة أكدت حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وعليه، يفترض بالقيادة الفلسطينية، ممثلة بالرئيس محمود عباس، اتخاذ خطوة سياسية وقانونية جريئة تتمثل في إعلان فلسطين دولةً تحت الاحتلال، والتحلل من كافة الاتفاقات الموقعة مع حكومة الاحتلال، بما يعيد تحديد طبيعة العلاقة مع إسرائيل وفق قواعد القانون الدولي، ويحمّلها التزاماتها الكاملة كقوة احتلال. إن إنكار الاحتلال لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره يُعد عدوانًا وانتهاكًا جسيمًا لمبادئ القانون الدولي، ولا يجيز له، بأي حال، إنكار حق الشعب الواقع تحت الاحتلال في المقاومة المشروعة. وقد أكدت قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والاتفاقيات الدولية، بما فيها اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الإضافية، مشروعية نضال الشعوب الواقعة تحت السيطرة الاستعمارية والاحتلال الأجنبي، واعتبرت هذا النضال جزءًا من حقها الطبيعي في التحرر، دون الخلط بين مقاومة الاحتلال ومفهوم الإرهاب. كما أن ميثاق الأمم المتحدة، ولا سيما المادة (40) وما يتصل بها من أحكام الفصل السابع، يمنح مجلس الأمن صلاحيات واضحة لاتخاذ تدابير ملزمة في حال تهديد السلم والأمن الدوليين. وبما أن إسرائيل تواصل احتلال دولة فلسطين، وترفض الامتثال لقرارات الشرعية الدولية، فإن ذلك يستوجب، قانونيًا، إلزامها بالانسحاب الكامل من جميع الأراضي المحتلة عام 1967، ووقف الاستيطان، وتفكيك المستوطنات، وتحميلها مسؤولية ما ارتكبته من جرائم بحق الشعب الفلسطيني، سواء في غزة أو في الضفة الغربية. أمام هذا المشهد الخطير، باتت الحاجة ملحّة إلى إطلاق حوار وطني فلسطيني شامل ومعمق، تشارك فيه جميع القوى والفصائل، بهدف تحمل مسؤولية المرحلة المقبلة، وصياغة استراتيجية وطنية موحدة وبرنامج سياسي جامع، يعيد الاعتبار لوحدة الموقف الفلسطيني، ويؤسس لوحدة سياسية وجغرافية حقيقية، ويوحّد مؤسسات الوطن، وينهي حالة الانقسام، ويوحّد الخطاب السياسي والإعلامي في مواجهة مخططات الضم، وفصل غزة عن الضفة الغربية، وتهويد القدس، التي تنفذها حكومة نتنياهو وائتلافه اليميني المتطرف. إن إعلان فلسطين دولةً تحت الاحتلال ليس خطوة رمزية، بل مدخلٌ ضروري لإعادة تصويب المسار الوطني، وتفعيل الأدوات القانونية والدبلوماسية الدولية، واستنهاض الموقف الفلسطيني على أسس قانونية صلبة، بما يعيد وضع القضية الفلسطينية في إطارها الصحيح كقضية تحرر وطني، ويؤكد أن الحقوق الفلسطينية غير قابلة للتصرف، وفي مقدمتها حق تقرير المصير، والحرية، والاستقلال.

البوابة 24