د.أحمد لطفي شاهين
علاقة الإنسان مع الحياة تشبه علاقة السفينة مع البحر حيث لا تزال الحياة تحاول ان تغرقنا في براثنها ويستمر الصراع مع الحياة لآخر لحظة .. لذلك من المهم جدا ان نختار في الحياة من يساعدنا على عبورها بسلام بعد الموت والقبر والبعث والنشور والصراط والحساب ... وصولا إلى الجنة إذا كنا نستحق رحمة الله.. إننا ومع تجارب الأيام نُدرك أن الأشخاص الوحيدين الذين يجب أن يبقوا في حياتنا هم أولئك الذين نكتشفهم في اصعب ظروفنا حتى عندما لا نملك ما نقدّمه سوى أنفسنا عندما ننطفئ نجدهم متمسكين بنا حتى وان ابتعدنا ، ويبقون معنا للنهاية حين نكبر ويخفت بريقنا ،وتصبح الأيام ثقيلة، وحين يتكلّم صمتنا أڪثر من كلماتنا.. أولئك النادرون خلاصة علاقاتنا الذين يَرون ما وراء المظاهر، وما وراء ما تستطيع أن نعطيه أو نفعله ، ويبقون معنا ليس لما لدينا ، بل لأجل خواطرنا .. هذه هي العلاقات التي تُبنى على الجوهر وليس على المكاسب هي العلاقات التي يجب أن نبحث عنها ونتمسك بها .. العلاقات الكاملة المتكاملة لأن أنصاف العلاقات لا تُغتَفَر ابداً … فالحب الناقص إستعباد واهانة .. والفهم الناقص ضياع وقت وجهد .. والإهتمام الناقص نفاق .. والحضور الناقص وهم وتمثيل .. حتى العقاب الناقص مهزلة .. فإما ان تكتمل وتحاول بجد ان تصل إلى الكمال .. وإما ان تحترم الآخرين وتتلاشى وتغيب عن المشهد .. فلا شيء مؤذي في العلاقات الإنسانية أكثر من أنصاف الأشياء .. وحاول دائما ان تتوقع الوفاء ممن اختارهم قلبك بعد تجارب و عناء .. لا أن تتوقع الخيانة ولا الغدر .. ولا تسمح لتجاربك السابقة ان تنعكس على علاقاتك الطيبة الحالية .. فليس من الشرف أن تُدخل أعزائك في امتحانات خفية استفزازية تُجبرهم فيها على إظهار أسوأ ما فيهم ك.رد فعل طبيعي ..! وليس من الشهامة أن تعامل اعزائك بتشكيك دائم وكأنك تنتظر سقوطهم .. بدلا من بقائهم ووفاءهم .. فهذا سلوك مريض لا يكشف معدن الناس حولك بقدر ما يكشف نقص ثقتك في نفسك .. فانتبه من هذا المنزلق الأخلاقي الخطير لأنك سوف تخسر نفسك قبل ان تخسر الآخرين .. إن من أجمل الأدوار التي تمنحها العلاقات الايجابية أن تعيد لنا الحق في الشعور وأن نرى جمال الحياة ، أن تفتح أمامنا آفاق نحو ذواتنا وتذكرنا أن الإنسانية لا تُقاس بصلابة الملامح ولا بقسوة الانفعالات بل بقدرتنا على الإنضباط وصولاً إلى الكمال بحيث نشعر ونتأثر ونُظهر ضعفنا أحياناً دون أن نشعر بالنقص في عالم يُربّى فيه الجميع على الكبت والكتمان ، ويُحمّلنا اعباء ثقيلة حتى الاختناق .. إن العلاقات الصحيحة تعطينا مساحة نتنفس فيها دون حذر .. تُعزز ثقتنا بانفسنا دون مقابل ، تجعلنا ندرك أن الحياة لا تكتمل بالقوة او الإجبار او القهر ، بل بالقدرة على أن نُحبّ ويُؤمَن لنا ونأمَن نحن أيضاً. .. وحتى تصل الى هذا الفهم المتكامل لطبيعة العلاقات الاجتماعية الإنسانية يجب عليك أن تعلم ان الناس يحملون داخلهم هموم ومشاكل خاصة بهم وأنك لست محور تركيز الكون .. يجب أن تتجرد أنت أولا من عباءة شعورك بأنك مهم جداً .. لأنك في النهاية إنسان .. ونحن أحياناً نمر بأوقات نرغب فيها بالعزلة والصمت .. لا نكره أحد ، لكننا فقط نفقد الطاقة ، نفقد الرغبة في الكلام، في التبرير، والعتاب ، حتى أن الشعور بالناس يصبح باهتاً، لا يؤلمنا ولا يُفرِحنا ، وكأن القلب قرر أن يأخذ إجازة من كل شيء .. من الضجيج ، ومن العلاقات ، ومن الركض في الدنيا ، حينها لا نحتاج سوى هدوءٍ طويل يُعيد ترتيب أرواحنا، وكلنا نمر في هذه الحالة اكثر من مرة ، ويجب أن نفهم ذلك حتى نحترم مشاعر ونفسيات وظروف الآخرين .. اختم مقالي بكلام ل.جلال الدين الرومي : إن أشدّ الناس قربًا من الله ثم من الناس ليسوا أهل الكلام الكثير ، ولا أهل المظاهر والصخب ، بل أهلُ السكون والحكمة؛ إن القلوب لا ترتقي بالصوت ، بل ترتقي بالصدق .. والصدق فقط فلا تبحث عن معجزة حتى يحبك الناس وتحبهم ، بل ابحث عن لحظة صدق مع الله ومع ذاتك . وهذا هو جوهر الأخلاق .. والأخلاق هي السياج الأخير الذي يحمي الإنسان من التوحش ، فحين تنهار القيم وتتفسخ العلاقات ، لا يبقى شيء يردع النفس عن الانحدار ، مهما اشتدت القوانين.. فالإنسان لا يقوّمه الخوف من العقوبة وحده ، بل يحتاج ضمير حي ، وأخلاق طيبة ،وعلاقات نظيفة ، وإحساس عميق بالمسؤولية تجاه نفسه وتجاه من حوله.. وبدون هذا الوازع الأخلاقي الداخلي ، تتحول المجتمعات إلى غابات، ويصبح الناس متوحشين وفرائس لبعضهم البعض .
