لماذا تنهار "اتفاقيات السلام" التي سعى إليها ترامب؟

ترامب
ترامب

إنهاء الحروب لا يتحقق عبر عناوين براقة أو إعلانات احتفالية، بل يحتاج إلى دبلوماسية طويلة النفس والتزام ممتد، كما يشير كيث ريتشبورغ في مقالته بصحيفة "واشنطن بوست".

انتكاسات ديسمبر

لم يكن شهر ديسمبر ودودًا مع المساعي العالمية التي قادها الرئيس دونالد ترامب لإحلال السلام، ففي الرابع من الشهر، استضاف ترامب رئيسي رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية في معهده الجديد للسلام، الذي يحمل اسمه، وأشاد بالزعيمين لإطلاقهما ما وصفه بـ"عام جديد من الوئام والتعاون".

غير أن الواقع الميداني سار في اتجاه معاكس، إذ استمرت المعارك، وبعد أيام قليلة من قمة السلام في واشنطن، سيطرت ميليشيا حركة 23 مارس المدعومة من رواندا على مدينة أوفيرا الكونغولية الرئيسية، ما أدى إلى نزوح نحو 200 ألف شخص.

حدود مشتعلة مجددًا

وفي 7 ديسمبر، تجددت الاشتباكات العنيفة على طول الحدود بين تايلاند وكمبوديا، لتعيد إشعال صراع كان ترامب قد أعلن تسويته بعد توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار في أكتوبر، وتبادل الطرفان نيران المدفعية، وأطلقت كمبوديا صواريخ وطائرات مسيّرة مسلحة باتجاه تايلاند، فيما ردّ التايلانديون بغارات جوية على أهداف عسكرية كمبودية.

وأسفرت المواجهات عن مقتل 11 جنديًا تايلانديًا، وما لا يقل عن 11 مدنيًا كمبوديًا، إضافة إلى نزوح أكثر من نصف مليون شخص من الجانبين، ورغم اتصال ترامب برئيسي وزراء البلدين وإعلانه عبر منصة "تروث سوشيال" التوصل مجددًا إلى وقف لإطلاق النار، فإن الطرفين نفيا سريان الاتفاق، واستمر القتال.

غزة وخطة متعثرة

أما خطة ترامب ذات البنود العشرين لإنهاء الحرب في غزة، فقد بدت هي الأخرى متعثرة، فالمرحلة الأولى من الخطة أسفرت عن وقف معظم الأعمال العدائية وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة حماس، إلا أنه لم تبدي أي دولة حتى الآن استعدادها لإرسال قوات للمشاركة في القوة الدولية المكلفة بنزع سلاح حماس.

كما أرجأ ترامب الإعلان عن "مجلس السلام" المشرف على إعادة إعمار غزة إلى العام المقبل، في وقت أعادت فيه حماس تثبيت حضورها كقوة مؤثرة داخل المناطق المأهولة بالسكان في القطاع.

اتفاقيات بلا تنفيذ

وفي السياق ذاته، توضح هذه الإخفاقات أن توقيع اتفاقيات وقف إطلاق النار أمام عدسات الكاميرات لا يكون سوى بداية المسار في أغلب الأحيان. فتغيير الوقائع على الأرض، ودفع الأطراف المتحاربة إلى التخلي عن السلاح، يتطلبان متابعة دقيقة والتزامًا أعلى، وهو درس تبرز أهميته مع سعي ترامب إلى ما قد يكون أضخم اتفاق سلام في العصر الحديث، بين روسيا وأوكرانيا، لإنهاء حرب تقترب من عامها الرابع.

أوكرانيا ووهم السلام

وتعتبر الحرب في أوكرانيا نتيجة مباشرة لاتفاقيات سلام هشة لم يلتزم بتنفيذها. فالعملية العسكرية الروسية في فبراير 2022 جاءت بعد فشل اتفاقيتي وقف إطلاق النار المعروفتين باتفاقيتي مينسك، الموقعتين عامي 2014 و2015، اللتين لم تنتجا سوى وهم الاستقرار.

وعندما زار الكاتب أوكرانيا عام 2018 للمشاركة في مؤتمر صحفي حول تغطية الحرب في منطقة دونباس، كان الأوكرانيون يتحدثون وكأن الحرب لم تتوقف قط، وهو ما كان يعكس حقيقة الواقع آنذاك.

جذور أعمق من التوقيع

وترجع جذور الصراع في وسط أفريقيا إلى الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، حين قتلت ميليشيات الهوتو المتطرفة نحو 800 ألف من التوتسي خلال ثلاثة أشهر، وتدخل جيش متمرد من التوتسي متمركز في أوغندا، أوقف المجازر، ولا يزال قائده بول كاغامي رئيسًا حتى اليوم.

وفي أعقاب ذلك، فر أكثر من مليون من الهوتو، بينهم مشاركون في الإبادة، إلى شرق الكونغو، وشكل بعضهم ميليشيات لزعزعة استقرار رواندا، فيما دعمت الأخيرة ميليشيا يقودها التوتسي تُعرف بحركة 23 مارس، التي تسيطر على مدن داخل الكونغو.

وفيما يتعلق بالنزاع بين تايلاند وكمبوديا فيعود إلى أكثر من قرن، منذ أن رسمت فرنسا، خلال فترة استعمارها لكمبوديا، حدودًا وضعت معبدين بوذيين قديمين والأراضي المحيطة بهما داخل الجانب الكمبودي، ومنذ ذلك الحين، اندلعت اشتباكات متكررة في المناطق الحدودية المتنازع عليها، أبرزها في عام 2008، ثم مجددًا في يوليو الماضي، حيث قتل عشرات الجنود ونزح عشرات الآلاف من القرويين.

كما تعود جذور حرب غزة إلى احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية بعد حرب عام 1967، وتحديدًا إلى عامي 2006 و2007، عندما فازت حماس بالانتخابات في غزة، ثم أخرجت حركة فتح بالقوة من القطاع.

وترفض حماس الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، ومنذ هجماتها في 7 أكتوبر 2023، دخل الطرفان في حرب مفتوحة.

نزاعات تتوارثها الأجيال

في كافة هذه الصراعات، تتجذر العداوات عبر الزمن وتنتقل من جيل إلى آخر، ولا يمكن تسويتها بمصافحات رسمية في واشنطن أو كوالالمبور أو القاهرة، كما أنها تقاوم الحلول السريعة والمبسطة.

يبدو أن ترامب يرى نفسه صانع سلام وعقد صفقات، لكن النزاعات التاريخية المعقدة لا تحل بالطريقة نفسها التي تبرم بها صفقات العقارات، حيث يخرج الجميع راضين، فوقف الحروب يتطلب وقتًا، ودبلوماسية صبورة، ومتابعة مستمرة، فيما لا معنى للمواعيد النهائية المصطنعة.

وكما أظهرت أحداث هذا الشهر، فإن إعلان اتفاقيات وقف إطلاق النار أمر سهل، لكن من يحملون السلاح يملكون رأيًا آخر.

روسيا اليوم