التعايش الإسلامي–المسيحي في فلسطين: ركيزة هوية وطنية ومعركة وعي في مواجهة الإقصاء
بقلم: المحامي علي ابوحبله
يحلّ عيد الميلاد المجيد على فلسطين لا بوصفه مناسبة دينية فحسب، بل كحدث وطني وثقافي وسياسي بامتياز، تتقاطع فيه الذاكرة الدينية مع الهوية التاريخية والصراع على الرواية. ففي أرض فلسطين، حيث وُلد السيد المسيح عيسى عليه السلام، تكتسب الأعياد المسيحية بُعدًا جامعًا، إذ تمسّ وجدان الفلسطينيين جميعًا، مسلمين ومسيحيين، باعتبارها جزءًا أصيلًا من تاريخ المكان وروحه، ومن نسيج اجتماعي لم تفلح القرون ولا الاحتلال في تمزيقه. لقد شكّل التعايش الإسلامي–المسيحي في فلسطين عبر مئات السنين نموذجًا فريدًا في المنطقة والعالم، قائمًا على الاحترام المتبادل والشراكة في الأرض والمصير. هذا التعايش لم يكن وليد المجاملات أو الظروف الطارئة، بل تأسّس على قواعد راسخة منذ الفتح العمري للقدس، حين صدرت العهدة العمرية عام 15 هـ/633م، بوصفها وثيقة قانونية وأخلاقية ضمنت حقوق المسيحيين وصانت كنائسهم ومقدساتهم، ورسّخت مبدأ المواطنة الدينية قبل أن تعرفه المفاهيم الحديثة. وفي هذا السياق، يؤكد الدكتور عكرمة صبري، رئيس الهيئة الإسلامية العليا وخطيب المسجد الأقصى المبارك، أن التزام الفلسطينيين بروح العهدة العمرية لم ينقطع منذ صدورها وحتى اليوم، رغم كل التحولات السياسية والاحتلالات المتعاقبة. ويشير إلى أن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في فلسطين بدأت فعليًا قبل أكثر من خمسة عشر قرنًا، حين فضّل المسيحيون حكم الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على حكم الرومان، الذين هيمنوا على البلاد قرابة خمسة قرون، لما وجدوه في الحكم الإسلامي من عدل واحترام للإنسان والعقيدة. وعلى امتداد القرون، تجذّر هذا التعايش في مدينة القدس بصورة خاصة، حتى بات جزءًا من هويتها الحضارية. ويتجلّى ذلك بأوضح صوره في كنيسة القيامة، أقدس المواقع المسيحية، حيث تتولى عائلتان مسلمتان—عائلة نسيبة وعائلة جودة—مسؤولية الإشراف على مفاتيح الكنيسة وفتحها وإغلاقها يوميًا. هذا الترتيب الفريد لم يكن إجراءً شكليًا، بل حلًّا تاريخيًا اتُّخذ لضمان الحياد ومنع النزاعات بين الطوائف المسيحية المختلفة، وهو ما يعكس مستوى الثقة المتبادلة بين مكونات المجتمع المقدسي. ويشير وجيه يعقوب نسيبة إلى أن عائلته تسلّمت مفاتيح الكنيسة لأول مرة عام 638م من بطريرك القدس صفرونيوس، عقب دخول المسلمين المدينة بقيادة عمر بن الخطاب، قبل أن تُنتزع المفاتيح إبّان الاحتلال الصليبي عام 1099. وبعد تحرير القدس على يد القائد صلاح الدين الأيوبي عام 1187م، أعيد التأكيد—وبتوافق الطوائف المسيحية—على بقاء المفاتيح بأمانة عائلة مسلمة. كما يوضح الدكتور ساري جودة أن عائلته تسلّمت أمانة المفتاح في عهد صلاح الدين، بينما أوكلت مهمة فتح وإغلاق الكنيسة إلى عائلة نسيبة، وفق تنظيم استقر لاحقًا بفرمان عثماني عام 1612م، وما زال ساريًا حتى اليوم. ولا تقتصر رمزية كنيسة القيامة على بعدها الديني، بل تمتد إلى بعدها الحضاري والسياسي، إذ تُعدّ—بحسب عدد من المؤرخين—«الجوهرة الثالثة في القدس الشريف» بعد المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة. ويعكس باب الكنيسة الحالي، الذي أُعيد بناؤه عام 1808 عقب حريق كبير، نقوشًا عثمانية باللغة التركية القديمة ذات الأحرف العربية تتضمن تراتيل إنجيلية، في دلالة عميقة على تداخل الثقافات والأديان في المدينة المقدسة. إن الفلسطينيين، مسلمين ومسيحيين، لم يعيشوا تاريخهم كجماعات متجاورة فحسب، بل كعائلة وطنية واحدة، جمعتهم وحدة الأرض والهوية والمصير، وعمّدتهم المعاناة المشتركة تحت الاحتلال. فالعلاقات الاجتماعية والعائلية، والمشاركة المتبادلة في الأعياد والمناسبات الدينية، شكّلت عبر الزمن خط الدفاع الأول عن النسيج الوطني في مواجهة محاولات التفكيك والفرز الطائفي. ومن منظور استراتيجي، فإن هذا التعايش يمثّل اليوم عنصر قوة في معركة الوعي والرواية، وأبلغ رد على خطاب التطرف الديني من جهة، وعلى المشروع الصهيوني اليميني المتطرف من جهة أخرى، الذي يسعى إلى تصوير فلسطين كأرض صراع ديني أحادي، وتكريس الإقصاء والتهويد كأمر واقع. فالحقيقة التاريخية تقول إن فلسطين كانت وستبقى أرض التعدد والتسامح، وأن قدسيتها نابعة من احتضانها للديانات السماوية جميعًا، لا من إقصاء إحداها. وبمناسبة عيد الميلاد المجيد، ومن أرض المهد في فلسطين المباركة، نتقدّم بالتهنئة الصادقة إلى أبناء شعبنا المسيحي، مؤكدين أن الاحتفال بهذه المناسبة هو احتفال بالهوية الفلسطينية الجامعة، وبقيم العدل والسلام التي حملتها الرسالات السماوية. راجين أن يعيد الله هذه المناسبة على فلسطين وقد عمّها الأمن والسلام، وتحررت القدس من الاحتلال والعنصرية، لتعود مدينةً للتعايش والعدالة، كما كانت عبر التاريخ، وكما يريدها أبناؤها مسلمين ومسيحيين، اليوم وغدًا وإلى يوم الدين.
