أُفول فرانس–إفريقيا... تحوّلات موازين القوى العالمية

بقلم: عائد زقوا

انسحاب فرنسا من الساحل الإفريقي يضع نفوذها التاريخي على المحك ويكشف حدود قوتها الاستراتيجية. شهد عام 2025 لحظة فاصلة في النفوذ الفرنسي بإفريقيا، تتجسد في انسحاب القوات الفرنسية من مالي وتسريع الانسحابات الدبلوماسية من دول الساحل، مع بعض الحالات التي شملت تشاد وساحل العاج، حيث تمت عمليات الانسحاب بطريقة مدروسة ضمن استراتيجية فرنسية لتقليص السِّمة العسكرية وتحويلها إلى تعاون أكثر استجابة لمطالب الشركاء الأفارقة، رغم أنّ المشاعر المعادية لفرنسا كانت الدافع الرئيس وراء تحوّل موقف الأفارقة من فرنسا. لكنّ دلالة هذه الانسحابات تتجاوز بعدها الزمني، إذ إنّ المفارقة التاريخية تكمن في أنّ فرنسا، التي خرجت من الحرب العالمية الثانية بشرعية "دولة منتصرة" لكنها مُنهكة، بَنت نفوذها العالمي على إفريقيا. واليوم، تواجه اختبارًا مماثلًا: الخروج من إفريقيا "منهكة استراتيجيًا"، فكيف ستبني شرعيتها العالمية الجديدة؟ لم يكن عام 2025 محطة عابرة في السياسة الخارجية الفرنسية، بل لحظة فاصلة أَسدلت الستار عمليًا على نموذج "فرانس–إفريقيا" الذي حكم علاقة باريس بالقارة لعقود. فما شهدته منطقة الساحل من انسحابات عسكرية مدروسة، وتقلّص في الحضور الدبلوماسي، وتراجع واضح في التأثير السياسي، يعكس انهيار منظومة نفوذ فقدت شرعيتها وفاعليتها معًا، وليس مجرد تغيير تكتيكي. المفارقة أنّ الخطر الأكبر لا يكمن في الفراغ الذي تتركه فرنسا خلفها، بل في الارتدادات العميقة التي يخلّفها هذا الانسحاب على بنية القوة الفرنسية نفسها. فإفريقيا لم تكن مجرد مجال نفوذ خارجي، بل إحدى الركائز التي سمحت لفرنسا بالحفاظ على صورتها كقوة عالمية، رغم تراجع وزنها الاقتصادي والديمغرافي مقارنة بالقوى الكبرى. إفريقيا… من رافعة قوة إلى كاشف للانكماش لفهم عمق هذا التحوّل، لا بد من التوقف عند الدور الذي لعبته إفريقيا تاريخيًا في تشكيل القوة الفرنسية. فعلى مدى عقود، شكّلت إفريقيا الرافعة الصامتة للقوة الفرنسية. فمن خلالها بَنت باريس نفوذًا دبلوماسيًا مكّنها من حشد كتل تصويتية داعمة داخل الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، ورسّخت وجودًا عسكريًا خوّلها لعب دور أمني يتجاوز حجمها الحقيقي، كما استخدمت هذا الامتداد لتكريس مكانتها داخل الاتحاد الأوروبي بوصفها الدولة القادرة على إسقاط نفوذها خارج القارة. اليوم، ومع تفكّك هذا الحضور، تدخل فرنسا مرحلة انكماش استراتيجي واضح. لم تَعُد قادرة على تحويل النفوذ الخارجي إلى وزن سياسي أوروبي، ولا على فرض رؤيتها في ملفات مركزية مثل الأمن والهجرة والطاقة. ومع أُفول العمق الإفريقي، تتراجع قدرتها على الادّعاء بالريادة داخل أوروبا نفسها. تراجع فرنسي… ومكاسب مشروطة للشركاء الجدد وبتفكّك هذا الحضور الفرنسي، لم يُترك المشهد الإفريقي فارغًا، بل شهد صعود فاعلين جدد على الساحة، في مقدمتهم روسيا، إضافة إلى الصين والهند وتركيا، مع تعزيز نفوذهم الاقتصادي والدبلوماسي في القارة. ومع ذلك، لم يتحسن الوضع الأمني في الساحل مع الشركاء الجدد، بل تفاقمت كثير من الأزمات، مع تسجيل انتهاكات متعددة لحقوق الإنسان، ما يوضح أنّ الانسحاب الفرنسي ليس خسارة بحد ذاته إذا جرى استيعابه وإعادة البناء بطريقة استراتيجية ومستدامة. هذا التحوّل لا يضعف باريس وحدها، بل ينعكس على الموقف الأوروبي ككل، ويُقلّص أدوات الضغط الغربية في أي مواجهة أو تفاوض مع الكرملين. في هذا السياق، يتآكل الخطاب الفرنسي حول "الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية". فكيف يمكن لفرنسا أنْ تقود مشروع استقلال عن واشنطن، وهي عاجزة عن الحفاظ على نفوذها التقليدي خارج أوروبا؟ هذا التناقض بات واضحًا لدول أوروبا الشرقية، التي لا تزال ترى في الولايات المتحدة الضامن الأمني الوحيد، وتتعامل بحذر متزايد مع الطموحات الفرنسية. الدور الفرنسي في مواجهة استراتيجية "أميركا أولًا" ولا يمكن فصل هذا التراجع الإفريقي عن السياق الأطلسي الأوسع، لا سيما مع عودة استراتيجية "أميركا أولًا ". فإذا ما دفعت إدارة ترامب نحو تسوية سريعة للحرب الأوكرانية وفق حسابات براغماتية بحتة، فإنّ أوروبا ستجد نفسها أمام فراغ قيادي حقيقي: واشنطن تُقلّص التزاماتها، ألمانيا مترددة، وفرنسا التي طالما قدّمت نفسها قوة قائدة تبدو مثقلة بفقدان أدوات النفوذ الخارجي. تاريخيًا، لعبت باريس دور الوسيط بين واشنطن وموسكو، مستندة إلى شبكة نفوذ عالمية باتت اليوم في طور التفكّك. ومع أُفول العمق الإفريقي، تتحوّل فرنسا تدريجيًا إلى قوة أوروبية كبرى بخطاب عالمي، لكن بقدرات محدودة. ما بعد "فرانس–إفريقيا": نهاية الوهم لم تَعُد محاولة استعادة النفوذ عبر الأدوات العسكرية خيارًا واقعيًا، بل رهانًا خاسرًا. فقد تغيّرت إفريقيا، وتآكلت شرعية التدخل الخارجي، وأي عودة فرنسية بالقوة لن تؤدي إلا إلى تعميق العزلة وتسريع الإقصاء. الخيار الوحيد القابل للاستمرار يتمثل في قطيعة حقيقية مع إرث الهيمنة، وبناء علاقات تقوم على الشراكة والتنمية واحترام السيادة، لا على إعادة إنتاج الوصاية بصيغ جديدة. كما أنّ أي دور فرنسي مستقبلي ذي معنى لن يكون منفردًا، بل مشروطًا بإطار جماعي أكثر واقعية وأقل ادّعاءً. بناءً على ما سبق، تتضح حدود البدائل وإمكانات التأقلم ومع ذلك، لا يعني أُفول نموذج "فرانس–إفريقيا" اختفاء الدور الفرنسي بالكامل، بل إعادة تقليصه وإعادة تعريفه. فداخل أوروبا نفسها، يصطدم أي إطار جماعي بعقبات بنيوية ناتجة عن تباين المصالح الاستراتيجية بين دولها، ما يجعل بلورة سياسة أوروبية موحدة تجاه إفريقيا عملية بطيئة ومحدودة الطموح. وفي المقابل، تستقبل النُّخب والشعوب الإفريقية هذا التحوّل بمزيج من الترحيب الحذر والشك العميق؛ إذ لا يُنظر إلى الانسحاب الفرنسي بوصفه نهاية للأزمات، بل فرصة لإعادة التفاوض على شروط السيادة والبحث عن شركاء أقل تدخلًا، وإنْ كانوا أكثر براغماتية. وفي ذات السياق، لا تزال فرنسا تحتفظ بأدوات تأثير ناعمة، لغوية وثقافية وتعليمية واقتصادية، غير أنّ فعاليتها باتت مشروطة باستعادة الثقة أولًا، وبالتخلي عن منطق النفوذ مقابل الانخراط في شراكات محدودة التأثير، طويلة الأمد، وخالية من الادّعاء القيادي. سياسيًا، يمكن القول إنّ عام 2025 لم يُنهِ "فرانس–إفريقيا" كنموذج تراجع نفوذ، وكشف حدود القوة الفرنسية في عالم يتغير بسرعة، بل عن أُفول أُنموذج كامل في إدارة العلاقة مع القارة، أُنموذج لم يَعُد قابلًا للاستمرار في ظل تحوّلات داخلية فرنسية وصعود فاعلين دوليين وإقليميين جدد. أُفول "فرانس–إفريقيا" ليس خسارة بحد ذاته، لكنه يتحوّل إلى أزمة حقيقية إذا أصرت باريس على إنكاره. ومن ثَمّ، فإنّ أي دور فرنسي ذي معنى لن يكون ممكنًا إلا ضمن إطار جماعي يقوم على شراكات متساوية وأكثر حساسية للسياقات المحلية، بما في ذلك الانفتاح على شراكات أوروبية، وربما أنجلوفونية مثل نيجيريا وجنوب أفريقيا، على نحو يجعل هذا الدور أكثر اتزانًا واستدامة.

البوابة 24