رَسَائِلُ مِنَ البَحْرِ

سامي فريد قرّه:

رَسَائِلُ مِنَ البَحْرِ-قصّة للأطفال

"صَدَفَةُ الْبَحْرِ" قَرْيَةٌ سَاحِلِيَّةٌ هَادِئَةٌ، تَعِيشُ فِيهَا فَتَاةٌ صَغِيرَةٌ تُدْعَى زِينَة. فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ تَعَانِقُ الْبُيُوتُ الزَّرْقَاءُ زُرْقَةَ الْبَحْرِ، كَأَنَّهَا نَسْجٌ وَاحِدٌ مَعَهُ. لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا مَا تُحِبُّهُ زِينَة أَكْثَرَ مِنَ الْبَحْرِ... تَنْظُرُ إِلَيْهِ بِشَغَفٍ كَمَا تَنْظُرُ إِلَى لُعْبَتِهَا الْمُفَضَّلَةِ، تُحَدِّثُهُ كُلَّ صَبَاحٍ، وَتَجْمَعُ مِنْ رِمَالِهِ أَحْلَامًا صَغِيرَةً تَصْنَعُ مِنْهَا الْقِصَصَ. تَجْلِسُ زِينَة كلّ يومٍ عَلَى الشَّاطِئِ، وَتَمُدُّ قَدَمَيْهَا فَوْقَ الرِّمَالِ الدَّافِئَةِ، تُرَاقِبُ الْأَمْوَاجَ وَهِيَ تَتَرَاكَضُ نَحْوَهَا وَتَبْتَعِدُ. وَتَحْمِلُ فِي حِضْنِهَا الصَّغِيرِ دَفْتَرًا صَغِيرًا تَفْتَحُهُ بِلهَفَةٍ لِتَكْتَشِفَ مَا يُخْفِيهِ مِنْ أَحْلَامٍ وَأَسْرَارٍ، كَمَا لَوْ أَنَّهَا بَحَّارَةٌ عَثَرَتْ عَلَى صُنْدُوقِ كَنْزٍ ثَمِينٍ. فِيهِ تَكْتُبُ كَلِمَاتٍ لَا تَقُولُهَا لِأَحَدٍ، وَتَرْسُمُ أَشْكَالًا تَنْبِضُ بِالْخَيَالِ، وَتُخَبِّئُ بَيْنَ صَفَحَاتِهِ أُمْنِياتً صَغِيرَةً تَنْتَظِرُ الْبَحْرَ أَنْ يُحَقِّقَهَا لَهَا. ذَاتَ مَسَاءٍ جَمِيلٍ، بَعْدَمَا ابْتَلَعَتِ الشَّمْسُ أَلْوَانَهَا وَغَابَتْ خَلْفَ الْأُفُقِ، جَلَسَتْ زِينَة عَلَى الشَّاطِئِ تَتَأَمَّلُ الْبَحْرَ بِلَوْنِهِ الْبَنَفْسَجِيِّ الْغَامِقِ. فَجْأَةً، وَقَعَتْ عَيْنَاهَا عَلَى شَيْءٍ غَرِيبٍ يَلْمَعُ فَوْقَ صَفْحَةِ الْمَاءِ، يَقْتَرِبُ بِبُطْءٍ مَعَ حَرَكَةِ الْمَوْجِ، كَانَتْ زُجَاجَةٌ خَضْرَاءُ شَفَّافَةٌ تَتَمَايَلُ، يَدْفَعُهَا إِلَيْهَا الْبَحْرُ، وَعِنْدَمَا لَامَسَتِ الزُّجَاجَةُ الرِّمَالَ الذَهَبِيَّةَ عِنْدَ قَدَمَيْهَا، رَأَتْ بِدَاخِلِهَا وَرَقَةً بَيْضَاءَ مَلْفُوفَةً بِعِنَايَةٍ. حَدَّقَتْ فِيهَا بِفُضُولٍ وَسَأَلَتْ نَفْسَهَا: يَا تُرَى، مَا السِّرُّ الَّذِي تُخَبِّئُهُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ؟ مَدَّتْ زِينَة يَدَهَا وَالتَقَطَتِ الزُّجَاجَةَ الَّتِي كَانَتْ مَا تزَالُ رَطْبَةً بِمِلْحِ الْبَحْرِ. فَتَحَتْهَا بِحَذَرٍ، وَسَحَبَتِ الْوَرَقَةَ مِنْ دَاخِلِهَا. فَرَدَتْهَا بِرِفْقٍ؛ رأتِ الْأَحْرُفَ مَكْتُوبَةً بِخَطٍّ صَغِيرٍ، وَقَرَأَتْ بِصَوْتٍ خَافِتٍ: اسْمِي زَيْن. أَعِيشُ فِي جَزِيرَةٍ بَعِيدَةٍ. أَشْعُرُ بِالْوَحْدَةِ، هَلْ هُنَاكَ أَحَدٌ يَسْمَعُنِي؟ فَتَحَتْ زِينَة عَيْنَيْهَا، وَنَظَرَتْ إِلَى الْأُفُقِ كَمَا لَوْ أَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ الْبَحْرِ يُنْادِيهَا. تَفَقَّدَتِ الْوَرَقَةَ مَرَّةً أُخْرَى، وأَعَادَتْ قِرَاءَةَ الْكَلِمَاتِ بِتَأَنٍّ، ثُمَّ تَمَتَّمَتْ غَيْر مُصَدِّقَةٍ مَا يَجْرِي حَوْلَهَا: هَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ رِسَالَةً حَقِيقِيَّةً مِنَ الْبَحْرِ؟ فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي، جَلَسَتْ زِينَة عَلَى الشَّاطِئِ، تَحْمِلُ دَفْتَرَهَا وَابْتِسَامَةً صَغِيرَةً لَا تُفَارِقُ وَجْهَهَا. كَتَبَتْ رِسَالَةً بِخَطِّهَا الطُّفُولِيِّ الْجَمِيلِ: مَرْحَبًا زَيْن، اسْمِي زِينَة. أَنَا أَسْمَعُكَ. طَوَتِ الرِّسَالَةَ بِعِنَايَةٍ، وَوَضَعَتْهَا دَاخِلَ الزُّجَاجَةِ وَقَالَتْ لَهَا: احْمِلِي كَلِمَاتِي إِلَيْهِ. ثُمَّ أَلْقَتِ الزُّجَاجَةَ فِي الْبَحْرِ؛ وَمُنْذُ تِلْكَ اللَّحْظَةِ، بَدَأَتِ الْمُغَامَرَةُ. مَرَّتِ الْأَيَّامُ. أَخَذَتْ زِينَة تَنْتَظِرُ الزُّجَاجَاتِ يوميًّا كَمَا يَنْتَظِرُ الْقَلْبُ رِسَالَةً مِنْ صَدِيقٍ بَعِيدٍ. وَكُلّ بِضْعَةِ أَيَّامٍ كَانَتْ تَظْهَرُ فَوْقَ الْمَوْجِ زُجَاجَةٌ جَدِيدَةٌ، تَلْمَعُ تَحْتَ شَمْسِ الصَّبَاحِ، تَحْمِلُ رِسَالَةً قَصِيرَةً مِنْ زَيْن. تفتحُ زِينَة الرّسالةَ بِعِنَايَةٍ، وَتَقْرَأُ الْكَلِمَاتِ الَّتِي يَكْتُبُهَا لَهَا زَيْن. كَتَبَ فِي إِحْدَى الرِّسَائِلِ: أُمِّي مُشْغُولَةٌ دَائِمًا، وأَشْعُرُ أَنّني غَيْرُ مُهِمٍّ. وَفِي رِسَالَةٍ أُخْرَى: "أُحِبُّ الْمُوسِيقَى، لَكِنْ لَا أَحَدَ يُشَجِّعُنِي." ثُمَّ جَاءَتْهَا وَرَقَةٌ ثَالِثَةٌ فِيهَا سُؤَالٌ وَاحِدٌ: هَلْ شَعَرْتِ يَوْمًا بِالْحُزْنِ دُونَ أَنْ تَعْرِفِي السَّبَبَ؟ كَانَتِ الْكَلِمَاتُ قَلِيلَةً، لَكِنَّهَا تَقُولُ الْكَثِيرَ. ولم تتركْ زِينَة رِسَالَةً دُونَ رَدٍّ. تَجْلِسُ عَلَى الشَّاطِئِ، تَكْتُبُ لَهُ بِخَطٍّ دَافِئٍ وَكَلِمَاتٍ مَلِيئَةٍ بِالْحَنَانِ. مَرَّةً كَتَبَتْ لَهُ: أَنْتَ لَسْتَ وَحْدَكَ يَا زَيْن، وَحَتَّى إِنْ صَمَتَ الْجَمِيعُ... فَأَنَا أَسْمَعُكَ. وَفِي رِسَالَةٍ أُخْرَى قَالَتْ: اسْتَمِرّْ فِي الْعَزْفِ وَالاسْتِمَاعِ إِلَى الْمُوسِيقَى، فَأَنَا مُتَأَكِّدَةٌ أَنَّكَ سَتُصْبِحُ مُوسِيقِيًّا شهيرًا يَسْمَعُهُ الْعَالَمُ كُلُّه. عِنْدَمَا قَرَأَتْ زينة حُزْنَهُ، كَتَبَتْ لَهُ: أَحْيَانًا نَحْزَنُ دُونَ سَبَبٍ، لَكِنْ تَذَكَّرْ أَنَّ فِي الْحَيَاةِ أَشْيَاءً صَغِيرَةً تُسْعِدُ الْقَلْبَ، فَقَطِ ابْحَثْ عَنْهَا. كَانَتْ تُؤْمِنُ أَنَّ الْكَلِمَاتِ الطَّيِّبَةَ، مِثْلَ الْقَوَارِبِ الصَّغِيرَةِ، يُمْكِنُ أَنْ تَعْبُرَ الْبِحَارَ وَتَصِلَ إِلَى الْقُلُوبِ الْبَعِيدَةِ. وَمَعَ مَرُورِ الْأَيَّامِ، بَدَأَتْ زِينَة تَتَغَيَّرُ دُونَ أَنْ تَشْعُرَ. صَارَ قَلْبُهَا أَكْثَرَ اِنْتِبَاهًا لِمَشَاعِرِ مَنْ حَوْلَهَا. فِي الْمَدْرَسَةِ، صَارَتْ تَسْأَلُ زُمَلاءَهَا بِتَعَاطُفٍ: هَلْ أَنْتُمْ بِخَيْرٍ الْيَوْم؟ وَإِذَا بَكَتْ صَدِيقَتُهَا جَلَسَتْ قُرْبَهَا، تُمْسِكُ يَدَهَا وَتَهْمِسُ لَهَا بِكَلِمَاتٍ تُشْبِهُ الْعِنَاقَ. حَتَّى فِي الْبَيْتِ بَدَأَتْ تَتْرُكُ بَطَاقَاتٍ صَغِيرَةً عَلَى وِسَادَةِ أُمِّهَا، أَوْ تَضَعُ وَرَقَةً عَلَى طَاوِلَةِ الْجَدَّةِ مَكْتُوبٌ فِيهَا: أُحِبُّكِ جَدَّتِي لِأَنَّكِ تَصْنَعِينَ أَلَذَّ خُبْزٍ فِي الدُّنْيَا. وَفِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ، جَلَسَتْ زِينَة عَلَى الشَّاطِئِ كَعَادَتِهَا، تَنْظُرُ إِلَى الْأُفُقِ وَتَنْتَظِرُ، لَكِنَّ الْبَحْرَ لَمْ يُرْسِلْ شَيْئًا. مَرَّ يَوْمٌ، ثُمَّّ آخَرُ... وَلَا زُجَاجَةَ تَظْهَرُ فَوْقَ صَفْحَةِ الْمَاءِ. تَسَلَّلَ الْحُزْنُ إِلَى قَلْبِهَا الصَّغِيرِ، وَبَدَأَ الْقَلَقُ يَدُورُ فِي رَأْسِهَا: مَاذَا حَدَثَ لِزَيْن؟ هَلْ هُوَ بِخَيْرٍ؟ بَعْدَ أُسْبُوعٍ كَامِلٍ مِنَ الصَّمْتِ، لَمَحَتْ أَخِيرًا زُجَاجَةً تَتَمَايَلُ عَلَى الْمَوْجِ، تَقْتَرِبُ مِنْهَا بِبُطْءٍ. أَسْرَعَتْ إِلَيْهَا، واِنْتَزَعَتْهَا مِنَ الْمَاءِ، فَتَحَتْهَا بِأَنْفَاسٍ مُتَلَهِّفَةٍ، وَقَرَأَتِ الْوَرَقَةَ الَّتي كَانَتْ فِيهَا. "يَا زِينَة، شُكْرًا لِأَنَّكِ أَنْقَذْتِنِي بِكَلِمَاتِكِ الْعَذْبَةِ. أَنَا الْآنَ بِخَيْرٍ، وَلَسْتُ وَحْدِي لأَنَّكِ صَدِيقَتِي. رُبَّمَا لَنْ تَصِلَكِ رَسَائِلِي بَعْدَ الْآنَ، لأَنَّنِي صِرْتُ أُرْسِلُهَا إِلَى قَلْبِي." اِغْرُورَقَتْ عَيْنَا زِينَة بِالدُّمُوعِ، لَكِنَّهَا ابْتَسَمَتِ ابْتِسَامَةً دَافِئَةً، فِيهَا حَنِينٌ وَامْتِنَانٌ وَفَرَحٌ حَقِيقِيٌّ. وَضَمَّتِ الْوَرَقَةَ إِلَى قَلْبِهَا، كَأَنَّهَا تَحْتَضِنُ صَدِيقًا بَعِيدًا عَادَ لِيَرُبِّتَ عَلَى قَلْبِهَا بِكَلِمَاتٍ جَمِيلَةٍ. وَمُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، بَدَأَتْ تَتْرُكُ عَلَى الشَّاطِئِ زُجَاجَاتٍ صَغِيرَةً، دَاخِلَ كُلٍّ مِنْهَا رِسَالَةً مَكْتُوبَةً بِخَطِّهَا الأَنِيقِ، رَسَائِلٌ تَقُولُ: أَنْتَ لَسْتَ وَحْدَكَ؛ أَنْتَ شَخْصٌ مُهِمٌّ؛ هُنَاكَ مَنْ يُفَكِّرُ بِكَ. كَانَتْ تَتْرُكُهَا هُنَاكَ، عَلَّ الْبَحْرُ يَحْمِلُهَا إِلَى قَلْبِ طِفْلٍ يَحْتَاجُهَا فِي مَكَانٍ مَا، كَمَا حَمَلَ لَهَا يَوْمًا رِسَالَةَ زَيْن. يُقَالُ أَنَّ الْبَحْرَ كُلَّمَا لَامَسَ رِسَالَةً مِنْ رَسَائِلِ زِينَة، اِبْتَسَمَتْ أَمْوَاجُهُ الصَّغِيرَةُ، وَرَفَرَفَتِ النَّوَارِسُ فَوْقَهَا، كَأَنَّهَا تَهْمِسُ: زِينَة كَانَتْ هُنَا... شَيْءٌ مِنْ نُورِ تِلْكَ الرَّسَائِلِ أَضَاءَ قُلُوبَ الْأَطْفَالِ. سيرة ذاتية سامي فريد قرّه، كاتب وباحث ومترجم من القدس، حاصل على شهادة في الأدب الإنجليزي. عمل محاضرًا في جامعة بيت لحم لعدة سنوات. صدر له كتابان: "سأستيقظ سحرًا" و "البحث عن فدوى،" كما نشر العديد من المقالات باللغتين العربية والإنجليزية في مجلات محلية وعالمية.

البوابة 24