لا كل من خرج عن القطيع بطل ولا كل من صمت جبان

 بقلم: د. نهاد رفيق السكني

في زمن الضجيج، صار التظاهر بالشجاعة هو القاعدة، والصمت يُدان كما لو كان خيانة. هذا المقال ليس دعوة لموقف، بل صرخة لفهم الواقع حين تُقحم الخيارات في محاكم جاهزة. حقيقة الواقع تقول: عمليات تمّ الترويج لها على أنها إنجازات تركت خلفها دمارًا واسعًا، خسائر بشرية، وإبادة يومية لمجتمع بأكمله، بينما ظل خطاب النصر يصدح بعيدًا عن معاناة الناس الحقيقية. بينما تنشغل مختبرات العالم في موسكو، وبرلين، وواشنطن، وبكين، بسباقٍ علمي لفهم الخلايا السرطانية وتطوير تقنيات علاجية متقدمة، من بينها أبحاث تعتمد على تكنولوجيا mRNA، تتسابق الدول الكبرى لإعادة تعريف معنى الاستثمار: الاستثمار في الإنسان، في صحته، وفي مستقبله. في هذا العالم، يُنظر إلى الجسد البشري بوصفه قيمة عليا تستحق أن تُسخَّر لها العقول والميزانيات. أما في زاوية أخرى من الكوكب، فنجد أنفسنا نخوض سباقًا من نوع مختلف؛ سباق الخلافات الداخلية، وتآكل النسيج المجتمعي، وإهدار الطاقات في معارك لا تُرمم جسدًا ولا تحفظ حياة. المفارقة موجعة: العالم يواجه “السرطان الطبي” بالعلم والتعاون، بينما نغذّي نحن “سرطانًا سياسيًا” ينهش المجتمع ويُضعف مناعته. في غزة، حيث يفترض أن يكون الإنسان هو الأولوية القصوى في ظل الكارثة الإنسانية والصحية، باتت المعاناة اليومية خلفية ثابتة لكل نقاش. ليالٍ قضاها نساء وأطفال وشيوخ في خيام مهترئة، يحاولون بأجسادهم الهشة حماية ما تبقى لهم من المطر والرياح. ولا تقف المأساة عند حدود الخيام والمستشفيات المرهقة؛ فمنذ العدوان، غابت المدارس والجامعات، وتوقفت العملية التعليمية عمليًا، ليجد جيلٌ كامل نفسه خارج الصفوف، بلا قاعات درس ولا مختبرات، ولا أفق واضح لمستقبل معرفي أو مهني. وهو غياب لا يقل خطورة عن انهيار المنظومة الصحية، لأنه يصيب المجتمع في قدرته على التعافي واستعادة توازنه. وفي هذا السياق، تبرز المفارقة الأخلاقية بوضوح أكبر عندما نتابع أخبار أبحاث علمية متقدمة، مثل اللقاح المناعي التجريبي الذي يُجرى تطويره في روسيا لتحفيز الجهاز المناعي على مهاجمة بعض أنواع الخلايا السرطانية. ورغم أن هذه الأبحاث لا تزال في مراحلها السريرية، ولم تحظَ بعد بإجماع علمي دولي نهائي، فإن دلالتها الرمزية واضحة: العالم، رغم صراعاته، ما زال يختار العلم والحياة طريقًا للمستقبل. في المقابل، يشهد المشهد الفلسطيني اليوم خطابين متوازيين تجاه حرب الإبادة التي تعرّض لها أهل غزة: خطابًا يرى فيما جرى إنجازًا سياسيًا وفعلًا مقاومًا، وخطابًا آخر يقرأ النتائج من زاوية إنسانية وصحية واجتماعية، ويرى أن الكلفة التي دُفعت – ولا تزال – تفوق القدرة على الاحتمال. ويتعزز هذا التباين مع الوثيقة التي أصدرتها حركة حماس حول أحداث السابع من أكتوبر، والتي قُدّمت فيها العملية بوصفها «إنجازًا وطنيًا»، في مقابل واقع إنساني وصحي وتعليمي منهك يعيشه قطاع غزة. الإشكال هنا لا يتعلق بحق مقاومة الاحتلال، وهو حق ثابت، بل في تقدير موازين القوى والنتائج، وفي الإصرار على سردية سياسية لا تنسجم مع الوقائع، ولا مع حجم الخسائر البشرية والمجتمعية. من منظور الصحة العامة والتعليم واحتياجات الناس الأساسية، تبدو هذه الفجوة أكثر خطورة؛ فالمجتمعات لا تنهار بالقنابل وحدها، بل بانهيار التعليم، وبفقدان الثقة، وبالاستمرار في تجاهل الكلفة الإنسانية للقرارات الكبرى. فالتقدّم الحقيقي لا يُقاس ببلاغة الخطاب، بل بمدى صون الإنسان، وحماية حقه في الصحة والتعليم، والعيش الكريم.

البوابة 24