ا.د. خالد محمد صافي
حاولت أن أتمهل في الكتابة عن تقييم العدوان الأخير على غزة رغم أنني كتبت مقالين أولهما في البدايات والثاني في المنتصف. ويبدو أن التمهل ناجم عن محاولة قراءة تقييمية واضحة لما حدث لاسيما وأن النهايات جاءت بفجوات لا تزال غير واضحة المعالم بل يشوبها الغموض الشديد. فنحن هنا لا نتكلم عن قتال دولتين أو جيشين، حتى نحسب النصر والهزيمة بحسابات العدد والمساحات وغيرها، هنا نتحدث عن عدوان صهيوني على مقاومة يحتضنها الشعب، وبالتالي الحديث عن نتائج واضحة المعالم قد يكون استنتاجات أكثر مما هو معلومات موثقة، مثل نجاح المقاومة في إشعال الوضع في القدس، وعرب الداخل، وحتى في الضفة الغربية، وربما الشتات كما في الحدود مع الأردن، ولبنان، أو مسيرات الجاليات الفلسطينية والعربية والإسلامية. كل ذلك يبقى ضمن الإطار الشعبي العاطفي، واذا لم يتم مأسسة ذلك يبقى الحديث عن تفاعل وتضامن شعبي وحدوي موسمي، كما أن الحديث عن إعادة القضية الفلسطينية والقدس إلى الواجهة في ظل موجة التطبيع العربي الرسمي وكذلك بعض النخب العسكرية والأمنية والاقتصادية والثقافية فهذا أيضا إذا لم يتم بلورته في مؤتمرات شعبية ومؤتمرات دولية لدفع عجلة مناقشة القضية الفلسطينية ووضع إطار حل يستند على الشرعية الدولية فإن الأمر سرعان ما يخفت لاسيما أننا شهدنا كل لك في عدوانات سابقة لاسيما عدوان 2014. وقد يكثر الحديث عن نتائج هنا وهناك ولكن نعتقد أن الحصاد لما حدث لا يزال من المبكر الحديث عنه لاسيما وأن ما حدث هو اتفاق على تهدئة هشة متزامنة ليس إلا وتم إرجاء تثبيتها لمباحثات لاحقة تقودها مصر. وهذا يعني أن الملف بقي في يد مصر التي أجادت في السابق سياسة إطفاء الحرائق دون أن تجيد سياسة ما بعد الإطفاء لأنه لم يحدث بعد عدوان 2014 بحث ملفات تم الاتفاق عليها في الورقة المصرية للتهدئة فيما يتعلق بمطار وميناء وغيرها. وبالتالي بقي الوضع في قطاع غزة كما هو لا يتجاوز عملية إعادة الإعمار والبعد الإغاثي وبقي السياق الجيوسياسي يدور في فلك إطار رفع الحصار أو تخفيفه.
علينا أن نشير هنا أن إبقاء حركة حماس في حكم الأمر الواقع، وبقاء الانقسام هو جزء هام واستراتيجي في الفكر السياسي الصهيوني المعاصر، وأن الجانب الصهيوني يعمل على تعميق ذلك. وبالتالي علينا الترفع عن ترديد أن بقاء حكم حماس في غزة هو انتصار، لأن الجانب الصهيوني لا يفكر بخلاف ذلك. بل أن سياسته هو تقليم أظافر حركة حماس كل بضع سنين، مع ابقائها في حكم غزة لأن إسقاط حكم حماس لها تكاليف عسكرية ولكن الأكثر أهمية لإسرائيل هو التكاليف السياسية والأمنية فيمن يحكم القطاع بعد ذلك، وهل تعيد اسرائيل لفتح وبالتالي إعادة توحيد المشروع الوطني الفلسطيني حتى لو بقي هزيلا، ام إعادته لمصر والعودة للوراء، أو وصاية دولية والعودة لتدويل القضية الفلسطينية بعد أن نجحت إسرائيل في إضعاف التدخل الدولي والأوروبي في القضية الفلسطينية والتفرد بها مع الولايات المتحدة.
قد يتحمل الكيان الصهيوني صواريخ حركة حماس والفصائل الفلسطينية الأسلامية والوطنية الملحقة بها حتى لو أصبحت أكثر وجعا عما كانت عليه في السابق ولكنه لن يتحمل ويقبل إعادة الوحدة للمشروع الوطني بجغرافيته ومؤسساته، ولن يقبل أي تدخل رسمي أو فصائلي في مشروع تهويد القدس باعتبار ذلك استراتيجية صهيونية عليا. ولذلك فإنه سيزيد في الفترة القادمة من الضغط ورفع حالة الاشتباك مع القدس كي يوصل رسائل بهذا الخصوص، وما اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى خلال الأيام السابقة الا رسائل ضمن هذا الاتجاه. وكذلك التصعيد في الشيخ جراح.
يبقى التسائل الأهم هنا فيما يتعلق بالمقاومة، فالذي لا شك فيه أن المقاومة بقواها المختلفة وعلى رأسها حركة حماس قد نجحت في توصيل رسائل سياسية فيما يتعلق بالقدس، كما نجحت في توصيل رسائل دولية بأن الفلسطينين وحدهم هو من يقرر وضع الصراع، وليس اتفاقيات التطبيع، وأن غزة هي بوصلة الهوية الفلسطينية، وأنها تمتلك أوراق التصعيد أو التهدئة وليس كيانات التطبيع أو السلطة الفلسطينية المهمشة في رام الله. وهذا بالتأكيد سيرفع من أسهم حركة حماس على الصعيد العربي والأقليمي والدولي على حساب السلطة الفلسطينية في الضفة، ومن هنا فهمت إسرائيل ذلك وبدأت تطرح افكار تقوية السلطة الفلسطينية بمساعدات دولية وأمريكية ومحاصرة حركة حماس، والحديث عن آلية جديدة لإدارة المعابر.
يمكن القول إن ما حدث في غزة من قوة المقاومة وصمودها، واحتضان شعبنا لها وصموده، وعدم هربه باتجاه الحدود كل ذلك يجعلنا نقول إن ما حدث هو الصمود في وجه العدوان. وليس بمعنى الانتصار لأن الانتصار الحقيقي هو في تحرير الأرض وتحقيق السيادة والاستقلال، ولذلك حاول الكيان الصهيوني كسر الصمود وكسر الاحتضان الشعبي للمقاومة من خلال ضرب الأبراج والمدنيين والبنية التحتية التي تزيد معاناة الشعب فيما يتعلق بالماء والكهرباء والواقع المعيشي . ولكن علينا أن نشير هنا شيء مهم جدا وجديرا بالملاحظة والتقييم بأن تراكم صمود المقاومة، وتراكم انجازاتها حتى لو بدت في المراحل الأولى إنجازات معنوية أكثر من كونها إنجازات على مستوى الأرض والسياسة، فإن كل حركات المقاومة بدأت بإنجازات بسيطة ولكن مع عملية الصمود والتراكم فقد شكلت بمجملها متغيرات استراتيجية فيما يتعلق بمحاولة تحقيق توازن ردع حتى لو لم يتحقق كاملا، فما حدث أن أكثر من نصف سكان الكيان توقفت حياته اليومية، وأن مدينة عسقلان بل تل أبيب قد عانت أكثر مما سبق، وأن صواريخ المقاومة المحلية تزداد قوة على الصعيد التفجيري والأضرار، وايضا على صعيد المسافات وحتى تغطية المساحات، هذا يعني أن ما نظرية الأمن الاسرائيلية التقليدية القائمة على نقل المعركة لأرض العدو لم يعد لها وجود. وأن تطور التكنولوجية قد اجهز على نظريات الجدران الفاصلة وغيرها. وبالتالي فإنه لا يمكن حل القضية الفلسطينية عسكريا بل سياسيا لأن تطور ادوات المقاومة وتراكم إنجازاتها سيجعل يوما المدن الصهيونية تعاني اكثر شيئا فشيئا في ظل التطور التقني والتكنولوجي الذي لا يمكن وقفه. ولذلك فإن ما حدث في العدوان الأخير الصهيوني على غزة سيشكل في نجاحه نجاحا للصمود وفي الوقت نفسه نجاحا على الصعيد الاستراتيجي التراكمي للمقاومة.
ومع ذلك لا زلنا نعتقد أن المقاومة لا تزال تمتلك أوراق الضغط في مفاوضات التهدئة، فهي صحيح لم تنتصر ولكن صمودها يشكل ورقة قوية في مفاوضات التهدئة. فصحيح أن الجانب الصهيوني سوف يحاول إفشال أي قطف حصاد أيجابي لحركة حماس، وذلك للاسف بتواطىء قوى عربية ودولية ولكن على حركة حماس وقوى المقاومة أن تدرك أن الحصاد أهم من الزرع. وأن الانتصار الحقيقي هو إحداث اختراق في المشهد السياسي الاستراتيجي، وليس إبقاء المقاومة معزولة بقضايا المحلية الإنسانية، وأفق رفع الحصار، قضيتنا ليست أنسانية، وليست قضية حصار بل مشروعا وطنيا يتعلق بدولة وسيادة وحرية، وأن المقاومة هي حامل المشروع الوطني الفلسطيني بعد أن فشلت سياسة المناشدة والتودد والخنوع. ولذلك يجب أن تثار في مفاوضات التهدئة القضية الفلسطينية باعتبارها قضية شعب يناضل تحت الاحتلال. وأن الوضع لن يهدأ إلا بتحقيق طموحاته الوطنية. ومن هنا تنجح المقاومة في الربط ليس بين غزة والقدس بل الربط بين غزة والقدس والضفة وحتى الشتات الفلسطيني. وحذر أن تبقى مفاوضات التهدئة في إطار إجراءات الحصار أو آلية إعادة التعمير لاسيما وأن الكيان الصهيوني قد الحق تدميرا في البنية التحتية والعمرانية كي يشغل حركة حماس في وحل إعادة الإعمار، والبقاء في هذه الدائرة من التخطيط الصهيوني. واخيرا وليس اخرا فإن الوحدة الوطنية وانهاء الانقسام هو الرد العملي والاستراتيجي لتحقيق الأهداف الوطنية على أساس برنامج سياسي وطني تحريري لأن الشعوب المحتلة دوما انتصرت وتنتصر بوحدتها وقوة إرادتها وصموها.