تاريخ القوة البحرية الفلسطينية  (الأسرار والخفايا) - الجزء الأول

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

بقلم: الكاتب والباحث محمد جهاد إسماعيل 

   بدأت تتبلور فكرة إنشاء القوة البحرية الفلسطينية بعد انتهاء معركة الكرامة عام ١٩٦٨. ففي أعقاب هذه المعركة، تدفق كم هائل من الدعم المادي واللوجستي والمعنوي على حركة فتح، وهرع مد بشري كبير للالتحاق بها والقتال في صفوفها. نتيجة لهذا التنامي في عتاد فتح وعدتها، رأت القيادة أنه لا بد من توسيع دائرة القتال وتنويع أساليب الاشتباك مع العدو. فمن هنا جاء القرار بإنشاء القوتين البحرية والجوية، لتكونان ساندتين للقتال البري الكلاسيكي الذي تزاوله فتح منذ نشأتها.

   كانت لجنة مكونة من القادة الثلاثة (أبو عمار وأبو جهاد وأبو علي إياد ) هي التي تتابع مشروع القوة البحرية، وتشرف على تنفيذه. إلا أن أبو علي إياد، كان الأكثر ارتباطا بالمشروع. لذا تم اعتباره بمثابة الأب والمؤسس الأول للقوة البحرية. 

   كان أبو علي إياد هو المهندس الميداني الذي اضطلع بمعظم اجراءات بناء القوة البحرية. قام أبو علي باصطفاء النواة الأولى لكادر البحرية، من صفوف الفدائيين العاملين على الجبهة الأردنية. وقام بعقد اجتماعين تأسيسيين، نوقشت فيهما كافة المسائل والقضايا المتعلقة بالتأسيس. الاجتماع الأول عقد في درعا، بحضور أبو علي إياد والنواة الأولى لكادر البحرية، أما الاجتماع الثاني فعقد في دمشق، بحضور أبو علي والنواة الأولى، إضافة إلى أبو عمار وأبو جهاد. 

   كان لدى أبو علي إياد نفوذ كبير في سوريا، وكانت تجمعه علاقات طيبة بالقيادات السورية. رأى أبو علي، ورأت معه قيادة فتح، أن الساحل السوري هو المكان الأمثل، الذي تستطيع البحرية الفلسطينية أن تباشر عملها من خلاله. 

   رحبت سوريا بتواجد القوة البحرية الفلسطينية على سواحلها. وكان للبحرية السورية فضل كبير، في احتضان القوة البحرية الفلسطينية ومساعدتها ودعمها وتدريبها. أيضا قامت البحرية السورية بتخصيص قطعة أرض في قرية (برج إسلام) الساحلية -شمال اللاذقية -لتكون المقر الأول وموطئ القدم الأول للبحرية الفلسطينية. 

   أنشأ الفلسطينيون قاعدتهم البحرية الأولى في برج إسلام، وهي القاعدة النواة، التي أخذت البحرية الفلسطينية تنطلق منها وتنمو وتنتشر. ففي غضون عدة شهور، أصبحت البحرية الفلسطينية تنتشر على امتداد الساحل السوري، وأصبحت تمتلك قواعد ومقرات وورش فنية في جبلة وطرطوس واللاذقية وغيرها من الأمكنة. لكن رغم كل هذا الانتشار، ظلت قاعدة برج إسلام هي القاعدة المركزية والأساسية للقوة البحرية الفلسطينية. 

   فور تموضعها في برج إسلام، قامت البحرية الفلسطينية باقتناء قطعتها البحرية الأولى. وهي عبارة عن زورق صيد متواضع، تم شراؤه من صياد سوري تركماني بمبلغ ٥٠٠٠ ليرة سورية. تم التخلص من شباك الصيد وقشور السمك التي تفترش بطن الزورق، وقام أفراد البحرية بتصفيحه، بقطع اقتطعوها من ألواح الصفيح. كان ذلك أول زورق تمتلكه القوة البحرية، وتم تسميته (إعصار). 

   بعد اقتناء الزورق، أخذ عناصر القوة البحرية يفكرون في العملية الأولى. اهتدى أحدهم إلى فكرة جريئة، ألا وهي قصف نهاريا من البحر. نالت الفكرة استحسان الجميع، وبدأوا في أخذها إلى حيز التنفيذ. فتم تزويد الزورق بقاذفة صواريخ كاتيوشا، إضافة إلى طاقم من الفدائيين مزود برشاشات وقذائف RPG. 

   انطلق زورق (إعصار) من قاعدة برج إسلام وشق طريقه في البحر جنوبا، حتى استقر قبالة نهاريا وأخذ يرجمها بشهب الثورة. لقد أنجز (إعصار) مهمته بنجاح، وفر باتجاه أقرب مرفأ قابله في جنوب لبنان، من أجل التخفي هناك بضعة أيام قبل عودته لبرج إسلام. 

   كان ذلك القصف الآتي من جهة البحر تكتيكا جديدا وغير مسبوق في الصراع مع العدو. تفاجأت يومها إسرائيل من تلك الهجمة غير المتوقعة، وخرج المذيع في نشرة أخبار البي بي سي يتلو ويقول: (الأسطول الفلسطيني يمخر عباب البحر المتوسط ويمطر نهاريا بالصواريخ). لقد كانت مبالغة طريفة لكن جميلة من البي بي سي، فالبحرية الفلسطينية لم يكن لديها أسطول، وإنما نفذت كل ذلك القصف عبر زورقها الوحيد ( إعصار ). 

   كان قائد البحرية السورية العميد عدنان طيارة محبا لفلسطين والثورة الفلسطينية، فواصلت البحرية السورية - بتوجيهاته - دعمها اللامحدود للبحرية الفلسطينية. أيضا احتضن وجهاء وأهالي مخيم الرمل باللاذقية اخوتهم المناضلين في البحرية الفلسطينية. فقد التحق العديد من أهالي المخيم بكادر القوة البحرية، وقدم المخيم عددا من الفنيين المهرة الذين عملوا بالورش الفنية التابعة للبحرية الفلسطينية، وبنوا لها تشكيلات متعددة من الزوارق، سواء الزوارق الخشبية، أو تلك المصنوعة من الفيبر جلاس. 

   بعد فترة من الزمن، لم يعد (إعصار) هو الزورق الوحيد الذي بحوزة القوة البحرية الفلسطينية. بل قامت الورش الفنية التابعة للقوة البحرية برفدها بعدد لا بأس به من الزوارق. حتى أضحت القوة البحرية تمتلك أسطولا من الزوارق المتعددة. ولم يكف (إعصار) عن ممارسة هوايته في قصف نهاريا، بل استمر في قصفها، فرجمها عدة مرات، وسارت في ركبه بقية الزوارق الأخرى. 

   ذات مرة، كان زورق في طريقه لقصف نهاريا، فصادف أمامه كورفيت إسرائيلي -مختبئ أو متخذ وضعية (الكمين) - بين الصخور الساحلية. كانت ردة فعل الفدائيين على متن الزورق خاطفة وسريعة جدا، فقد انهالوا على الكورفيت بقذائف RPG متلاحقة وأمطروه بزوبعة عاتية من الرصاص. اشتعلت النيران في الكورفيت الإسرائيلي وبدأت النار تطال ذخيرته، أما الزورق فقد انسحب على وجه السرعة، باتجاه أقرب نقطة على الساحل اللبناني. 

   كانت هذه العملية لطمة قوية سددتها البحرية الفلسطينية للبحرية الإسرائيلية. فقد تمكن بضعة فدائيين بأسلحة بسيطة -على متن زورق صغير - من تدمير قطعة بحرية كبيرة وحديثة. أيضا انتقم فدائيونا بهذه العملية لفرنسا، فقد عرف أبو جهاد من مصادره في الأرض المحتلة، أن الكورفيت المدمر هو من طراز ساعر ٣، وبالتالي فهو أحد قطع الكورفيت الست التي سرقتها إسرائيل من حوض شيربورغ لبناء السفن في فرنسا عام ١٩٦٩. 

   استقبلت القوة البحرية أبطالها منفذي العملية -استقبال الفاتحين - بمجرد عودتهم للقاعدة في برج إسلام. وأخذت القوة البحرية تستقبل التهاني والتبريكات من القيادتين الفلسطينية والسورية. وأجريت مناورة عسكرية بحرية سورية فلسطينية احتفالا بهذه العملية الإعجازية. 

   استمر الفنيين في الورش الفنية ومعهم اللجنة العلمية التابعة لفتح في تطوير صناعة الزوارق وزيادة سرعتها وقدرتها القتالية. فأصبحت القوة البحرية تعتمد في جزء كبير من تسليحها وعتادها على منتوجات الصناعة العسكرية الفلسطينية. والحق يقال أن المنتوجات العسكرية الوطنية آنذاك كانت تضاهي - في عديد من المجالات - نظيراتها الأجنبية. 

   ارتفعت أسهم القوة البحرية الفلسطينية كثيرا، لا سيما بعد قصفها المتكرر لنهاريا وضربها الكورفيت الإسرائيلي ساعر ٣. فراحت العديد من الشخصيات الرفيعة تزور قاعدة برج إسلام، لتقدم التهاني للفدائيين ولتشد من أزرهم. وكان من بين تلك الشخصيات كل من: ( الزعيم اليمني علي سالم البيض، وعبد الحميد جمال عبد الناصر، والعماد مصطفى طلاس، وقائد البحرية الليبية ). 

إلى اللقاء في الجزء الثاني 

البوابة 24