البوابة 24

البوابة 24

ميشيل عفلق.. الإسلام برؤية قومية

الدكتور وليد الفططي
الدكتور وليد الفططي

بقلم: الدكتور وليد القططيf1a00bcd97badd3e28d0b4afb6e02b57.jpg

في حوار مع صديق من المُثقفين القُدامى، قبل مُثقفي (الفيس بوك) الجُدد، أبطال الأثير، وصُنَاع الإثارة، والباحثين عن الفضائح ، كان الحوارُ حولَ مقال سابق بعنوان (جمال عبد الناصر… قراءة خارج صندوق الإخوان)، انتقد فيه الصديق فكرة المقال الأساسية ، وهي فكرة نقدية ترفض وصمة العداء للإسلام ومُحاربة المسلمين التي تُلصقها الحركة الإسلامية في كل من يختلف معها ، أو يُخالفها ويتصارع معها، وترفض وهم احتكار تمثيل الإسلام، على أساس أنَّ الآخرين لهم رؤيتهم الخاصة للإسلام، والآخرين في المقال كان يُمثلهم التيار القومي الناصري وعلى رأسه جمال عبد الناصر، ما عُرف بعد وفاته بالتيار القومي الناصري، والتيار القومي البعثي وعلى رأسه ميشيل عفلق مؤسس التيار القومي البعثي، الذي ينظر للإسلام برؤية قومية، ويضع الإسلام في مكانة مركزية في مشروعه الفكري الحضاري، وهذه المكانة مُستخلصة من كتابات ميشيل عفلق على مدار نصف قرن من الزمن، التي جُمعت في خمس مجلدات بعنوان : ( في سبيل البعث)، بعيداً عن التأثر بالصراع الدموي بين حزب البعث والحركة الإسلامية عندما مارس الحزب القمع ضدها، وبعيداً عن أدلة إسلام عفلق القوية وتسمية نفسه ( احمد ميشيل عفلق).

مكانة الإسلام في مشروع ميشيل عفلق الفكري والحضاري ، المعروف بالبعث العربي ، مكانة مركزية، فهو يتحدث عن أهمية الدين عامة للأمة العربية تحت عنوان ( قضية الدين في البعث العربي)، ومن كلماته: “الدين في صميم القضية العربية والمواطن العربي، الذي نعمل لتكوينه ولم نرض له أن يكون تكويناً ناقصاً أو زائفاً”. والدين عنده هو الإسلام بالرغم من أنه ولد مسيحياً أرثوذكسياً، فيقول: ” بدافع من الحب للأمة العربية، أحببنا الإسلام، منذ السن اليافعة، وبعد أنْ اقتربنا أكثر من فهم الإسلام، أضحى حبنا لأمتنا يتلخص في حبنا للإسلام، وفي كون الأمة العربية هي أمة الإسلام”، ولذلك أحب الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، وجعله رمزاً للأمة العربية” في وقت مضى تلخصت في  رجل واحد حياة أمته كلها، واليوم يجب أن تصبح كل حياة هذه الأمة في نهضتها الجديدة تفصيلاً لحياة رجلها العظيم، كان محمد كل العرب، فليكن كل العرب محمداً”. وقد أكد المفكر محمد عمارة في كتابه ( التيار القومي الإسلامي) على هذه المكانة للإسلام في مشروع البعث العربي فكتب: ” استدعى ميشيل عفلق الإسلام كمرجعية لمشروع الأمة الحضاري المعاصر ونهضتها المستقبلية المنشودة، لأنَّ الإسلام حياة مُتجددة ومُجددة لروح الأمة ومشروعها الحضاري”.

والإسلام مرتبط بالعروبة عند ميشيل عفلق ارتباط الروح بالجسد “نرى في العروبة جسماً روحه الإسلام”.فيقول : “ارتباط العروبة بالإسلام ظل مئات السنين خلال التاريخ عبارة عن الحياة التي يحياها العرب ويتنفسونها كالهواء”، ورأى في تجربة الإسلام وحياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) استعداداً دائماً للنهضة العربية، “إذا فُهم الإسلام على حقيقته…تتكرر ملحمة الإسلام البطولية بكل فصولها في واقعنا إلى أن تُختم بالظفر النهائي للحق والإيمان”، ورأى عفلق في الإسلام منبعاً للبعث العربي من الإسلام تجدده وثورته، ونستقي من منبعه فضائل الإيمان في سبيل نشر المبادئ التي تنقذ العرب في هذا العصر من ضعفهم وتفككهم وانخفاض مستواهم الروحي والاجتماعي. وقد ربط بين الإسلام والعروبة والإنسانية، فقال: “الإسلام في واقعه عربي، وفي مراميه المثالية إنساني، فرسالة الإسلام إنما هي في خَلْق إنسانية عربية… إنَّ يقظة العرب القومية اقُترنت برسالة دينية… ليؤدوا واجباً دينياً كله حق وهداية ورحمة وعدل وبذل أراقوا من أجله دماءهم”.

والإسلام مرتبط بالثورة عند ميشيل عفلق ، لذلك فرّق بين الإسلام الثوري المُعادي للاستعمار والرجعية، والإسلام (العتيق) الذي يقتصر على العبادة السطحية والمعاني العامة الباهتة ، المُهادن للاستعمار والرجعية، ويرى في الثورة وسيلة لديمومة وجود الأمة العربية من خلال اتصالها الدائم بالإسلام؛ فيقول: “وهذا الاتصال لا يكون بالنقل الحرفي  ولا بالتقليد، وإنما تُكتشف هذه الحقائق من جديد من خلال ثقافة العصر، ومن خلال الثورة والقتال”، ويرى ” أنه يجب أن تتحد الصلاة (الإيمان)، مع العقل النّير ( الوعي) ، مع الساعد المفتول ( الثورة) لتؤدي كلها إلى العمل العفوي الطلق الغني القوي المحكم الصائب”، ويُعّبر عن الثورة بالانقلاب الذي أحدثه الإسلام في حياة العرب وفي أنفسهم، وأنَّ سر هذا الانقلاب الإسلامي في الوحي الإلهي وليس من البشر”.ويميز بين حقيقة الدين وظاهر الدين الذي يصل إلى درجة التناقض الحاصل بين الثورة والاستسلام؛ ويتساءل: “هل يفكر الشباب أنَّ الإسلام عند ظهوره هو حركة ثورية؛ ثائرة على أشياء كانت موجودة : معتقدات وتقاليد ومصالح؟ وبالتالي هل يفكرون بأنه لا يفهم الإسلام إلاَّ الثوريون؟”.

الإسلام رسالة العرب الخالدة للإنسانية الواردة في شعاره “أمة عربية واحدة… ذات رسالة خالدة”، فيوضح ما هية هذه الرسالة بأنها “إيمان ملازم للأمة يمثل جوهرها”، ويوضح معنى الرسالة بأنها ” حضارة وقيم معينة… يستطيع العرب في المستقبل عندما يبلغون المستوى الراقي السليم المبدع أن يحققوها وينشروها بين البشر”، وهذه الرسالة الخالدة مرتبطة بالنهضة العربية الحديثة عنده ” إنَّ نهضتنا العربية الحديثة هي من ذلك النبع من ينبوع الرسالة الأولى”، وعن مضمون الرسالة الخالدة التي تحدّث عنها عفلق كتب محمد عمارة في كتابه (التيار القومي الإسلامي) يقول: ” بعد الدراسة المتأملة للكتابات الكاملة لميشيل عفلق ، ومنها ما كتبه عن تراث الإسلام الثوري والروحي، وعن مرجعية هذا التراث في المشروع النهضوي، مشروع بعث الأمة، وعن دور التراث -الإسلام- في تمّيز الأمة، وتميز نهضتها القومية، فإننا لا يخالجنا أدنى شك في أنَّ الرسالة الخالدة التي عناها ميشيل عفلق هي ذات الإسلام كثورة وحضارة ميزت الأمة العربية عن غيرها من الأمم ذات الرسالات النسبية التي لها إطلاق وخلود رسالة الإسلام”.

وللإسلام عند عفلق دوراً مركزياً في مواجهة التحدي الغربي الحديث للأمة العربية، فهو سبب عداء أوروبا للأمة العربية ؛ فيعبر عن ذلك بقوله: “إنَّ المنافسة بسبب الدور الحضاري الذي جاء به الإسلام، وليس بسبب الموقع والثروات والمصالح”. ومواجهة التحدي لا تكون بالتبعية للغرب، بل بالتميز والاستقلال الذي لا يتحقق إلاَّ بالإسلام الثوري الحضاري؛ ومن ذلك قوله: “لا نُريد لنهضتنا القومية أن تكون مُقلدة، وأن تنقل مجرد نقل من الحضارة الأجنبية”، وهذا التمايز يقتضي رفض التبعية للغرب بشقيه : الرأسمالي الليبرالي، والاشتراكي الشيوعي، ويدعو إلى طريق ثالث منبثق من روح العروبة ورسالتها الخالدة؛ فقال: “قرأنا الإسلام بعد قراءة الشيوعية.. بعد مواجهة  التحدي الاستعماري الغربي وحضارته، وبعد الاطلاع على الحل الثوري الشيوعي الآتي من الغرب أيضا”، ولذلك دعا المسيحيين العرب إلى أن “يحرصوا على الإسلام حرصهم على أثمن شيء في عروبتهم، وأن يروا في الإسلام ثقافة قومية لهم، يجب ان يتشبعوها ويحبوها”، ولأهمية دور الإسلام في مواجهة التحدي الغربي قال :” ولئن كان عجبي شديداً للمسلم الذي لا يحب العربي، فعجبي أشد للعربي الذي لا يحب الإسلام”.

الإسلام برؤية قومية كما قدمه ميشيل عفلق أو أحمد ميشيل عفلق، يؤكد أنَّ هناك رؤى أخرى للإسلام خارج إطار الحركات الإسلامية، رؤى ترى في الإسلام حضارةً ورسالةً وثورة وروحاً، ولا ترى وجوداً للعرب والعروبة بدون الإسلام، ولا تؤمن بإمكانية مواجهة التحدي الاستعماري الغربي بدون الإسلام كهوية وثقافة ودين، والجانب الأهم في تلك الرؤية أنها نقطة ارتكاز لتحرير العقل المسلم الحركي المعاصر من أوهامه التي تشرّبها من التعبئة الحزبية والحركية على مدار عقود طويلة من الزمن، وأهمها: وهم امتلاك الحقيقة المُطلقة، ووهم احتكار تمثيل الإسلام، ووهم الثنائية القطعية بين الحق (نحن) والباطل ( الآخر)… وهذه الأوهام هي المسئولة عن وصمة العداء للإسلام التي تُلصق بكل من تنافس أو تصارع مع الحركة الإسلامية من داخل السلطة أو من خارجها، وإزالة هذه الوصمة لا تعني تبرئة أحدٍ من جرائم الاستبداد والفساد المُرتبطة بالسلطة، التي مورست ضد الإسلاميين وغيرهم، بل تعني إعادة قراءة تاريخهم بطريقة موضوعية مُحررةٍ من وصمةِ العداء للإسلام.

البوابة 24