البوابة 24

البوابة 24

فوانيس المخيم وتمثلات الوجع

صورة الغلاف
صورة الغلاف
بقلم: محمد جهاد إسماعيل 
 
تارة يصعد مع نسق السرد التصاعدي، وتارة يهبط مع نسق السرد الاسترجاعي، هكذا كان سليم النفار ينسج لنا، روايته المجبولة بالدموع والدم. من يقرأ فوانيس المخيم، يحتشد ذهنه بمشاهد الأسى وتتراءى له في مخيلته تمثلات الوجع. لم يكن الوجع أمرا عابرا في هذه الرواية، ولا ضيفا خفيف الظل، بل كان مقيما ملازما، يجثم بحضوره الثقيل طيلة مسيرة الأحداث وسيرورتها.
 
تتناول الرواية مسألة الحرب الأهلية اللبنانية من بعد غير مألوف كثيرا، وهو تأثر فلسطينيي سوريا تحديدا بهذه الحرب. لقد اكتوى الفلسطينيين في سوريا بنيران هذه الحرب المهلكة المدمرة - شأنهم شأن غيرهم من أبناء شعبهم - إذ تعرضوا للكثير من التشديدات والملاحقات الأمنية، ودفعوا فاتورة باهظة من الشهداء والجرحى والمفقودين والأسرى. لقد أحبوا فلسطين والقضية، ومن وحي هذا الانتماء الصادق، قدموا أبنائهم قرابين على مذبح الثورة.
 
كانت الرواية سفرا ممتدا لا ينتهي من التراجيديا، وكأن أحداثها وشخوصها حنوا للتراجيديا الأصلية، التي ظهرت للمرة الأولى عندهم هناك فوق الساحل السوري، أما الكوميديا، التي ظهرت أيضا وللمرة الأولى فوق ذات الساحل، فكانت قليلة الظهور في الرواية، وكان حضورها خجولا، كحضور الغيم في سماء الصيف الصافية. في قديم الزمان، قبل ميلاد المسيح بقرون، كان أهل الساحل السوري يحيون سنويا وبانتظام مناسبتين اثنتين، في الأولى ينوحون على موت أدونيس ويعلنون الحداد، وقد سموا تلك المناسبة (تراحجديا) ثم أخذها عنهم الإغريق وحرفوها لتصبح (تراجيديا)، في الثانية كانوا يحتفلون ويبهجون بقيامة أدونيس من الأموات، وقد سموا تلك المناسبة (قوموثيا)، ثم أخذها عنهم الإغريق وأحالوها إلى (كوميديا).
 
هناك على الساحل السوري، في مخيم الرمل قرب اللاذقية، كانت سلسلة الأحداث تدور دورتها المرة، فتصنع بدورانها مشانق، تخنق بها أبطالها من اللاجئين الفلسطينيين. هناك في ذلك المخيم الصغير كل الخواتيم لا تأتي إلا حزينة، فالحكايات التي تبدأ حزينة، تنتهي كما بدأت حزينة، والحكايات التي تبدأ سعيدة، لا تلبث وأن يتخطفها الحزن، فتنتهي هي الأخرى حزينة.
 
تتبدى تمثلات الوجع في أدق تفاصيل الرواية. بداية من الوجع الكبير، الذي حمله اللاجئين معهم وهم نازحين، قادمين من فلسطين إلى مخيم الرمل. وصولا إلى وجع أم علي، ونار الفقد التي تحرق قلبها، حزنا على زوجها الشهيد. ووجع أم محمود، ونحيبها المروع على ولديها الشهيدين. ووجع خالد وخوفه على حبيبته سوسن، التي اختفت طويلا ثم سقطت جريحة في القصف المدفعي. ووجع سوسن وانكسار قلبها لاستشهاد خالد، الذي صرعته رصاصة غادرة في أحد شوارع بيروت.
 
فعل الوجع أفاعيله أيضا في وجدان فاطمة، التي فجعت من خيانة زوجها وارتمائه في أحضان الغانية. وبمد دائب لا يتخلله جزر، كانت أمواج الوجع تتدفق بملحها الحارق في أعماق أبو صابر، الذي كاد يموت قهرا وكمدا على مركبه، الذي ذهب مع البحر ولم يعد.
 
رغم كل هذا الوجع الهائل ورغم سوداوية الجو المسيطر، أخذ الروائي يغرس بذور الأمل في أصيص روايته، فقد أنهى سرده بمشهد تفاؤلي مؤثر في شرفة سمير، حين اصطفت شخصياته تتأمل زرقة البحر وترنم:
وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان ..
وحدن بيقطفوا أوراق الزمان ..
بيسكروا الغابي ..
بيضلهن متل الشتي يدقوا على أبوابي ..
على أبوابي ..
 
****
* كاتب من فلسطين
IMG-20210716-WA0197.jpg
 
IMG-20210716-WA0195.jpg
 
البوابة 24