صفعة على خد جريح ق.ق

محمد نصار
محمد نصار

بقلم: محمد نصار

بالكاد رفع رأسه عن الوسادة التي أعياها الثقل، حاول النهوض فلم يستطع، أعاد المحاولة مرة بعد أخرى، لكنه رجع إليها من جديد، رجع منهكا.. تعبا وأشد وجعا من ذي قبل، راح يحدق في السقف  متأملا بقعة في الزاوية المقابلة منه، حاول الهرب من خلالها إثر أفكار تلاحقه.. تتداعى في رأسه كسيل منهمر، يغمض عينيه مختبئا خلف سوادها، فتتبعه الصور.
 صور تطل من أعماقه، محملة بكل ما اختزن في الروح من ذكريات، ذكريات تحاصره.. تطارده، بكل ما فيها من أسى .. يوم سعى خلف حلم يقوده إلى ثرى الوطن ويوم أوشك الموت أن يخطفه، فأتى على اثنين من رفاق السلاح وترك له جرحا مازال مرسوما على جبينه وآخر لم تبرأ منه الروح  بعد.. يوم لامست قدماه ثرى الوطن وتنسمت رئتاه شذا عطره، وسط أذرع مشرعة على اتساعها، تحتضن دون سابق معرفة أو لقاء وزغاريد تصدح فتلامس عنان السماء. 

مسح دمعة سحت على خده.. أشعل سيجارة وراح ينفث دخانها بصمت وتأمل، ترجل عن السرير بثقل لم يعهده من قبل، ثقل ولد بداخله رغبة جديدة بالبقاء، لكنه أصر على وأدها والخروج، اتجه إلى الحمام وأفرغ ما احتبس في مثانته من ماء، ثم نظر في المرآة المقابلة، تحسس أثر الكدمة الظاهرة على خده الأيمن، عاودته صورة الشرطي الشاب وهو يدفعه إلى الوراء بقوة وحين حاول الاعتراض أجابه بصفعة اختزن فيها كل معاني الحقد والغباء.. عاوده لسعها من جديد، كأنها حدثت للتو أو قبل لحظة قريبة، فسحت دمعة أخرى من عينه وهمس بشيء من المرار: من الغباء وربما العبث أن تموت على يد من تدافع عنه.

لبس ثيابه على عجل.. خرج إلى المقهى الذي اعتاد، شعر كأن العيون تتابعه ..تنظر إليه وتحديدا إلى تلك البقعة المرسومة على خذه وعجز عن مداراتها، نظر إلى الركن الذي اعتاد، فوجده في الانتظار، قابله بيده ممدودة وعين مسلطة على ذات البقعة، ثم همس مواسيا: لكل قضية ثمن لا بد من دفعه.
- لمن؟.
- هذه قصة أخرى.
- بل هي القصة يا عزيزي.. هي الفنتازيا التي لا يحيط بها خيال.. هي الموت الذى نسمع به ونرى أثره لكننا لا نراه.
- دعك من هذا كله والتفت لصحتك.
- ما عادت تعنيني في شيء، أمام هذا الموت الذي يحاصرنا في كل حين
- أشعل سيجارة أخرى وطلب قهوة من دون سكر، مسح قطرات لمعت على جبينه، ثم وضع يده على صدره وهمس بصوت بالكاد وصل مسامعه: اطلب الإسعاف.  

البوابة 24