البوابة 24

البوابة 24

يُحكــى أنَّ (٣)

سليمان دغش
سليمان دغش

بقلم: سليمان دغش
يُحكى أنَّ امرأةً في السّبعينَ من النّكبةِ ما زالتْ كلَّ مساءٍ 
تُسنِدُ زندَيْها المصلوبَينِ على كتِفِ الشّباكِ وتَنظُرُ شرقاً، جِهَةَ الجسرِ، 
أما زالَ الجِسرُ على حالَتِهِ خًشَبياً يا فَيروزُ؟
 أم انَّ دُموعَ اللوعَةِ في أعيُنِ مَنْ عَبَروا ذاتَ نهارٍ أسوَدَ من ليلِ النّكبَةِ 
أنهَكَتِ الجِسرَ فلمْ يَحتَمِل الدَّمعَ الحارِقَ في الأحداقِ وحَشرَجَةَ فراشاتٍ 
في أجنِحَةِ الأرواحِ تَئنُّ على دَربٍ لا يُفضي إلّا للمَجهولِ بكَفِّ الرّيحِ،
 وإنَّ الرّيحَ لماكِرَةٌ جداً!!
وَيَكادُ الجِسرُ يَنوءُ بِكَلكَلِهِ، يتَحَسًّسُ وَجهَ الماءِ وقَدْ أضحى دمعاً 
هلْ شاهَدَ أحَدٌ يوماً نهراً يبكي منْ ضِفَّتِهِ إلى ضِفَّتِهِ؟!
 يَرتَفِعُ النَّهرُ ليُسنِدَ ظَهرَ الجِسْرِ لئَلّا يسقُطَ، ما أقسى الدَّمعَةَ في عَيْنَيْ 
مَنْ وَدَّعَ وطَناً أملاً بالعَودَةِ! 
كانَ الوعدُ سراباً في حُلُمِ العَودَةِ، طائرةً منْ وَرَقٍ يُمسِكُها الأطفالُ بِخَيطٍ واهٍ، 
تَشتَدُّ الرّيحُ فَيَنقَطِع الخَيطُ وتهوي طائرةُ الوَرَقِ على سَطحِ الخَيمَة
سَقَطَتْ طائرَةُ الوَرَقِ إذنْ...
سَقَطَتْ في اللحظًةِ عِندَ عُبورِ الجِسرِ فكَيفَ نُصَدِّقُ وعداً وَرَقِيّاً يا يافا؟!
سَقَطَتْ طائرَةُ الوَرَقِ العَبَثِيَّةُ وابتَعَدَتْ أحلامُ العَودَةِ واتَّسَعَ المَنفى...
هلْ ما زالَ الجسرُ يُسمّى جِسرَ العَودَةِ يا فَيروزُ؟!
ويُحكى أنَّ المَرأةَ ما زالتْ تَرقُبُ كلَّ مساءٍ جِهَةَ الشَّرقِ، 
تَعُدُّ النَّجَماتِ على أُفُقٍ ما زالَ على مرمى جَفنَيها السَّوداوينِ 
وتَسألُ كمْ نَجْماً حاوَلَ أنْ يَدنو الليلَةَ من شُبّاكي؟
فَتَقولُ النَّجمَةُ إنَّ الشُّهُبَ أضاءَت ليلَ الغُربَةِ وقناديلَ الرؤيَةِ في تيهِ الرؤيا
 لِتُضيءَ الدَّربَ إلى بؤبؤِ عَيْنَيْكِ السّاهِرَتَيْنِ على حَدِّ الخِنجَرِ لكنَّ الخَطَّ الأخضر!؟
مَنْ رَسَمً الخَطَّ الوَهمِيَّ الأخضَرَ حولَ خريطَتِنا بينَ البَحرِ وبَينَ النّهرِ؟
وكمْ نَجماً منّا حاوَلَ أنْ يَجتازَ الخَطَّ الأخضَرَ لكِنَّ رجالَ الأمنِ على طَرَفَيْهِ
 وحُرّاسَ الطاغوتِ الأكبَرِ فَتَحوا نارَ بنادِقِهم وكلابُ العًسكَرِ تَنبَحُ:
 احذَرْ احذَرْ أنْ تَتَجاوَزَ يوماً هذا الخَطَّ الأخضَر...!
وَتَقولُ الأسطورَةُ إنَّ حماراً أبيَضَ يَحمِلُ أسفارَ خرافَتِهِ قدْ تاهَ طويلاً في الصّحراءِ،
 فمَنْ وَهَبَ الأسطورةَ حقاً جغرافياً أن تَرسُمَ خطَّ الوَهمِ الأخضَرَ
 حَولَ خريطَةِ وطَني بَينَ الماءِ وبَينَ الماءِ لِتَفصِلَ روحي عنْ جَسَدي؟
وتَقولُ المًرأةُ في السَّبعين لِنَكبَتِها، لمْ تَكبُرْ يوماً 
فالأوطانُ كقُرصِ الشَّمسِ تمُرُّ الأيامُ تَمُرُّ فلا تهرَمُ أبداً..!
وَكَعادَتِها ما زالتْ تنظُرُ جهَةَ الجٍسرِ، تَعُدُّ كواكِبَها نَجماً نَجماً،
 تَحفَظُ أسماءَ الشُّهُب العائِدَةِ وكَمْ نجماً سَقَطَ على خطِّ القَهرِ الأخضَر ...
لا بأسَ تقولُ فما منْ شيءٍ غير الدَمِّ الأحمَرِ يمحو هذا الخَطَّ الوَهمِيَّ الأخضَرَ 
حَولَ خريطَتِنا الأولى، يا وَطَناً لا يَبعُدُ إلّا خُطُواتٍ عنْ نونِ الجنَّةْ
يُحكــــــــــى أنَّ...
(سليمان دغش) - فلسطين

البوابة 24