البوابة 24

البوابة 24

قراءة نقدية في رواية (كشجرة زيتون) للكاتب المصري (سعيد رمضان علي)

قراءة نقدية في رواية (كشجرة زيتون) للكاتب المصري (سعيد رمضان علي)

بقلم:أ‌. ولاء نافذ شحاده

فلسطين يسعى الناقد دومًا لأن تكون دراسته النقدية ذات منهجية علمية لها أُسسها وأركانها الواضحة, تلك التي يترجم فيها لغة النصوص المكتوبة بأسلوب موضوعي يبعُد عن الذاتية, فيندفع إلى أعماق النص مجيبا عن التساؤلات المطروحة, ومفسرا للرموز الواردة, ومستنطقا للدلالات الكامنة, ومترجما للجماليات الفنية والإبداعية؛ ليتشكل أمامنا نصا إبداعيا آخر غير الذي أنشأه المؤلف. الرواية التي بين أيدينا "كشجرة زيتون" امتازت بواقعية أحداثها المسرودة؛ إذ انبثقت من واقع الحياة الفلسطينية, وسيطرت عليها العاطفة القومية التي تنم عن الإحساس العربي الخالص تجاه القضية الفلسطينية وما يدور على أرضها من صراعات ونزاعات وتشابكات سببها الاحتلال الصهيوني, فنجد أن أحداث الرواية سٌردت في (أربع وعشرين) لوحة, وفي كل لوحة يكشف الكاتب عن شخصية فاعلة تلعب دورا في تصاعد ونمو الأحداث وربطها ببعضها عبر توظيفه لتقنيات السرد الروائي الحديث؛ إذ نلحظ بروز تقنية الحوار الخارجي بشكل إبداعي وبلغة حوارية مترابطة ذات بناء فكري وفني, تٌخرج الأحداث عن رتابتها ونمطيتها, وتحررها من سلطة الراوي العليم وتفصح عن مرجعيتها الفكرية والثقافية والإنسانية, وباللجوء إلى تقنية الاسترجاع حاك الكاتب ذكريات شخصيات العمل الروائي عبر تيار نفسي خالص يٌدخل الشخصية في دائرة الصراع المتناقض باستمرار بين ما يقبع في باطنها وما يمثل أمامها بصورة منطقية تساعد في سرد الأحداث لتنير محتوى المحكي الراهن بمحتوى المحكي المسترجع وصولا إلى نهاية الحدث, ومن خلال تقنية الوصف نجد أن الكاتب أبدع في وصف الأماكن والأحداث ومتغيرات الزمن, واستطاع الوقوف داخل نفسية الشخصية، لدرجة أن القارئ يشعر بأنه أمام كاميرا راصدة ترصد بشكل محترف ما أمامها, فكانت تسير الأحداث على نحو متتابع ومتنام إلى أن يقحم الوصف نفسه من خلال محطات أو وقفات سردية توزعت على طول العمل الروائي، وعبر تقنية التناص لجأ الكاتب إلى توظيف التراث كالأغنية الشعبية والأناشيد ذات الموروث الشعبي الفلسطيني؛ ليعزز علاقة الفلسطيني بأرضه ويدعم وجوده ويؤكد هويته وأحقيته التاريخية والدينية, كما كان يلجأ الكاتب لتقنيات سردية أخرى كالرمز والمفارقة وتيار الوعي أو التداعي الحر وغيرهم من تقنيات تساعد في إثراء لغة النص وكسر جموده ورتابته وسطحيته. العنوان (كشجرة زيتون) هي جملة نستدل منها على هوية مكان وقوع الأحداث وجريانها, فهو عنوان مكاني, ذو أسئلة متلاحقة: أين المكان تحديدا؟ من المشبه بشجرة الزيتون؟ ما وجه الشبه بين طرفي التشبيه؟ لماذا شجرة الزيتون من بين الأشجار؟ لماذا أتى التشبيه بصيغة المفرد ولم يقل الكاتب كأشجار زيتون؟ من الشخصية المتخيلة في ذهن الكاتب و التي استحقت التشبيه بشجرة مباركة وعظيمة لتتجسد بها تجربة حياتها؟ وبالإجابة على تلك التساؤلات نجد أن العنوان من ناحية نحوية جملة تشبيه مؤلفة من اسمين متتاليين (مضاف ومضاف إليه) يسبقهما حرف الجر (الكاف), والمبتدأ هنا محذوف والتقدير قد يكون اسم أو فعل, ومن ناحية بلاغية يأتي التشبيه في أربعة أركان: لم يفصح الروائي عن ركنين وهما المشبه ووجه الشبه، وأبقى ركنين وهما أداة التشبيه والمشبه به, وغرض الحذف هنا لإثارة وتشويق القارئ وجذب انتباهه طوال السرد ليسد فراغ الحذف, ويلحظ على جملة العنوان أنها تثير في القارئ حسا جماليا فشجرة الزيتون تعرف بلمعان زيتها, واخضرار زيتونها وأوراقها, وطول عمرها فضلا عن بركتها, ومن خلال القراءة نجد أن شخصية البطل (يوسف) هي المشبه وإن كانت باقي شخصيات العمل كـ( أم يوسف والشيخ محمود ووفاء وشيماء وراتشيل والصبي سعد وزياد وأبي نضال وأم نضال ..) تشترك معها بالصمود والإرادة والعزيمة إلا أن الكاتب عزم على تجسيد ذلك في شخصية البطل (يوسف) تلك التي عاشت حياتها في زمنين منفصلين وهما: زمن ما قبل (اتفاقية أوسلو) وزمن ما بعدها وظلت هذه الشخصية صامدة وقوية وذات مبدأ وإرادة رغم تعرضها للتشريد والاعتقال والتعذيب والنفي من القدس الشرقية إلى مدينة غزة, وإكمالها مسيرة المقاومة بذاتها رغم اتفاقية السلام دون اتباع أي فصيل مما يعيد للقارئ تشكيل الوعي الذاتي المقاوم نحو التحرر, فأتت جملة التشبية مبينة حال المشبه ومؤكده لفكره وإيمانه, وموضحة للمعنى الخفي ومقوية له في ذهن القارئ. تدرج الكاتب في عرض الواقع الفلسطيني عبر أحداث تسخن أحيانا وتفتر أحيانا أخرى, فانطلقت شرارة الأحداث من أحد أحياء القدس الشرقية وامتدت على طول السرد لتنتهي تلك الأحداث في قطاع غزة مما يدل على قدرة الكاتب في الربط بين المدن الفلسطينية, ودقة رصد الأحداث وتتبع سيرها, عبر شخصيات رئيسة وثانوية, أعطاها رسما بدنيا وأيديولوجيا, فالشخصيات اليهودية رسمت بصورة عادية جدا أقرب للنمط التقليدي السائد في الروايات: شعر أحمر ووجه مصفّر وعيون ضيقة وصوت أجش؛ فربما اختار الكاتب الوصف التقليدي ليحيد نفسه عن تساؤلات هو بغنى عنها لاحقا, أما الشخصيات الفلسطينية فكل شخصية رسمت بما تناسب نمط حياتها أو مهنتها, وإذا سلطنا الضوء على شخصية البطل (يوسف) نجد الكاتب لم يتوسع في رسمها البدني, ربما لعمومية الشخصية لتناسب تجربة وحياة كل إنسان فلسطيني, ومن خلال القراءة نجد أن الكاتب كان معنيا بالخلفيات الأيديولوجية والنفسية والثقافية والاجتماعية للشخصيات أكثر من رسمها البدني, وأكثر ما ركز عليها الكاتب أنه وضعنا أمام نماذج مختلفة من الشخصيات اليهودية التي تدعم قصديته وتساهم في رفع مستوى الوعي لدى القراء, فكل شخصية يهودية كانت تحمل فكرتها ومرجعيتها الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والعقائدية الخاصة بها, فكانت تتصرف وتدفع بالأحداث على إثرها. وبما أن الرواية اتسمت بالطابع الحواري الذي يكشف عما تحمله الشخصيات من صفات نفسية ومادية وقيم ومواقف وأفكار تنمٌّ عن مستوى الوعي لديهم, وتعمل على "خلق صراع بين الشخصيات داخل عالم الرواية, يتحقق من خلال اللاتجانس في المستوى الفكري والاجتماعي وغير ذلك؛ لتحقق جانبا يٌحسب لبنية الرواية شكلا ومضمونا, ويؤسس لصراع ضروري يزيد من سمة الإحساس بالواقعية في الرواية, ويجعلها في منأى عن البنية الأحادية الفكرية" ومن أبرز تلك المشاهد المفارقة ما تمثل في شخصية القائد اليهودي الغربي (موشيه) وشخصية مساعده اليهودي الشرقي (شمعون), فالقائد (موشيه) يؤمن بالفكر التبشيري الذي ينادي بالسيطرة اليهودية على الأرض الفلسطينية وأنها ملك خالص لليهود وحدهم, ووجوب قتل العرب لإرضاء إسرائيل, بينما المساعد (موشيه) كان يؤمن بالفصل بين متطلبات الرب التي تنهى عن القتل ومتطلبات أرض إسرائيل, فالعرب واجب ترحيلهم وليس قتلهم وبهذا يٌرضي الرب ويسيطر على الأرض, يقول الكاتب: " رد شمعون وحمل صوته رنة شخص يستعذب التضحية والاستشهاد: -لا.. منذ أيام حدثني موشيه حديثا عجيبا: " أقول أهم فضيلة لليهودي أن يعرف كيف يقتل العرب حتى ترضى عنك أرض إسرائيل" لم يقل ذلك على سبيل التعبير عن رأيه بل قالها كموعظة أخلاقية, أمر غريب منه هو صاحب القلب الميت الذي لا يعرف شيئا عن الدين أن يتكلم بمواعظ أخلاقية! من ناحيتي فمستحيل الحياة دون ترحيل العرب, فالجار البعيد افضل من العدو القريب لكنني لا أحب قتلهم, فقتلهم لا يرضي الرب وأنا فخور بذلك فأنا أعمل من أجل إرضاء الرب وأيضا من أجل إسرائيل, لكن لا يمكنني أن أضع وطني مقام الرب كما يفعل موشيه" وفي مشهد حواري فكري آخر يعكس التناقض والتضارب بين طرفي الصراع والذي تمثل في شخصية الفلسطيني المختار _الشيخ_ (محمود) وشخصية الصهيوني (موشيه) حول أحقية ملكية الأرض الفلسطينية ومشروعية الدفاع عنها, ففي حدث اجتياح المخيم نجد القائد (موشيه) يخاطب المختار (محمود):" - سلمونا الإرهابيين وسنترك المخيم. - هل اتفق وأن تكلمت مع مخاتير من قبل؟ - أدينك يوافق بأن يقوم الإرهابيون المسلمون بقتل اليهود؟ - إن الظلم وليس (اليهود) الذي نكره، فلا داعٍ لتحريف القضايا! لكنك تعرف أنْكِ تحرّفها، ألست كذلك؟ لو تسلل يهودي ليسرق بيتي، لن أصيح: اليهودي جاء ليسرق بيتي أنا المسلم، أو أتعصب دينيا وأصرخ أن اليهود كلهم لصوص. لا.. لا.. كان المختار يهز راحة يده ووجهه بينما هو مستمر في حديثه: -لا.. سأقول ببساطة: لص جاء يسرق بيتي، أتري، لن أذكر كونه يهودي وأنا مسلم، فاللص لص مهما كانت ديانته، وها أنت تقول لي: دع اللص يسرق بيتك ويقتل أولادك ولا تصرخ لأنه يهودي وأنت مسلم! ألست تفعل؟ باختصار: ما نفعله، نفعله بدافع وطني، وندافع عن حقوقنا، لكني أدرك براعتكم في قلب الحقائق، حقنا في الدفاع عن النفس أصبح إرهاب، وإرهابكم أصبح دفاع عن النفس!" فالفلسطيني يدافع عن حقوقه ووطنه, أما الصهيوني فهو محتل همجي ذو قتل وتشريد وسلب ونهب وأسر, فابتدع أحقيته وصدقها وأصبح يتصرف ببدعته كأن الأرض الفلسطينية ملك يمين له. وفي مشهد حواري آخر يكشف المفارقات الفكرية واختلاف المواقف ووجهات النظر بين الشخصيات اليهودية, فتمثل ذلك عبر شخصية المحامية اليهودية (راتشيل) ذات الأصل الفرنسي, وبين قاضي المحكمة الإسرائيلية أثناء محاكمة شخصية الفلسطيني (يوسف), ولم يأت الكاتب بهذا المشهد المفارق من فراغ؛ وإنما ليعزز دور حقوق الإنسان تجاه القضية الفلسطينية ويبين الفرق بين الديانة اليهودية البحتة كأحد الديانات السماوية الثلاث، والفكر الصهيوني القائم على التنكيل والترهيب والتشريد والزور والافتراء, إضافة إلى إعادة تشكيل الوعي لدى القارئ ودعمه في مواصلة مواجهة محتله عبر شتى الطرق والوسائل والأساليب, تقول (راتشيل): " – هناك شيء أود قوله حول هذه " قوة هدَّامة" التي يتشرف المدعي العام بإلصاقها بي ، بعضهم يقول لي: معنى اليهودي أن يكون مُخلِصاً لإسرائيل، وبدون ذلك لا يكون يهوديًا، ما معنى هذا؟ وهل معنى الإخلاص هو الموافقة على قتلِ العرب وطردهم من ديارهم؟ هل معناه عدم الدفاع عنهم؟ هل أصمت عن تعذيبهم في المعتقلات؟ لا، أنا لا أستطيع الموافقة على هذا، لا يمكنني الموافقة عليه بتاتاً، ثم يطلقون عليَّ لقب الخائنة لأنّي لا أكره العرب وأُدافع عنهم، ماذا أفعل هنا إذن؟ وماذا نفعل في هذه القاعة جميعًا؟ لمّ هذه المحكمة من الأساس؟ لقد كنت منسجمة تمامًا مع اليهود في أوربا، لكن هنا لا أفهم، ينظرون لي كقوةٍ هدَّامة لكن في الحقيقة أفكاري لا تحمِل عنصرية، لقد وُلِدتّ وعشت في جوٍ مختلف، وأفكِّر بطرقٍ مختلفة، هذا كل شيء ولا يمكنني أن أُساير شعور العداء العام نحو الفلسطينيين، ما أؤمن به هو المجاورة لا عالم النفي، والمجاورة تعني أشياء كثيرة، سأذكر منها شيئًا واحدًا فقط لأنَّه يخص هذه المحكمة، وهو العدالة للفلسطينيين، وليس لكم وحدكم" ومن أبرز الرموز التي اعتمدها الكاتب ليوصل فكرة أن حرية الفلسطيني قادمة لا محالة, وأن الأمل بالنصر باق ومتوارث عبر الأجيال، بل متجذر في نفسهم كتجذر شجرة الزيتون في أرضهم, فتمثل ذلك في ربط الطائر الوطني لدولة فلسطين "عصفور الشمس" بالصبي (سعد) " احتضنَ الصبي شجرة الزيتون المُعَمِّرَة، وتسلَّقها بنعومةٍ كاِنْسِيابِ الظّلال. - هيه، سعد ماذا تفعل؟ - زياد، انظر! اقتَرَبَ زياد بمشيتهِ الطّويلة، ونظرَ بالاتِّجَاهِ الذي أشارَ إليه أخوه، رأى عصفور على غصن، كانت وقْفَة الطائر المتعالية، وريشه الأسود الممزوج بألوانِ قَوْسِ قُزح، التي تزهو تحت أشعة الشمس، يُضفي عليه أناقة مهيبة. - إنَّه عصفور الشمس. - إنَّه عصفوري." وإضافة إلى جملة رمزية ينطق بها لسان ( شيماء) وهي "من بيت فلسطين" عند سؤالها من أي بيت أنت؟ تلك الجملة التي في بعدها الباطن رسالة مغزاها أن فلسطين لا تعرف العائلات ولا الأحزاب ولا الفصائل ولا المنظمات ولا الانقسام حتى, إنما شعب واحد ذو مسيرة كفاح واحدة. وعبر صراع الشخصية مع ذاتها, نجدها تجسدت بشكل واضح في شخصية القائد الصهيوني (موشيه), وشخصية (يوسف), وكما نعرف أن الصراع الذاتي قد ينشأ "نتيجة أمراض نفسية موروثة او مكتسبة, أو نتيجة للإحساس بالإحباط أو فقدان المد العاطفي" فتلك الشخصيات لها حالتها الشعورية الخاصة, والتي تستحق التتبع والتقصي والكشف والتحليل, فشخصية القائد(موشيه) اليهودي الروسي كانت تعاني من صراع نفسي منذ الطفولة بسبب البيئة الأسرية التي نشأ بها وحياة الفقر التي عاشها مع أسرته, فأمه المعيلة فقط, ووالده رجل ديني لا شيء لديه سوى الكتب الدينية وقراءتها, ناهيك عن حياة الميتم التي عاشها بعدما فقد والديه وعاني خلالها من سخرية أقرانه, وما ارتكبه من جريمة في المجتمع الروسي استحق عليها السجن، وأخيرا قرر الذهاب إلى إسرائيل أرض العدالة كما يعتقد، وهذا الاعتقاد تسلل إليه من حكي أمه وهو جالس بقربها على الأرض, ومن خلال الذكريات يعبر موشية عن الأحداث التي شكلت شخصيته: " ردَّدها بداخلهِ أكثر من مرة، شَعَرَ بأنَّ كلمة "الأطفال" تسحبه بقوةٍ غير طبيعية لزمنٍ سحيق، هناك في تلك الفجوة الظلامية حاولوا التسْطُير على صفحتهِ ما يريدون، غَيَّموا على حياتهِ كأشباحٍ تقبِض على الخناقِ، وتطارده في كلِّ خطوةٍ يَخْطُوهَا في شوارع روسيا الباردة..... صرَّ على أسنانهِ ولَمْ يتكلَّم، أرادَ فقط أن يعيش، هذا أقصى ما يَطمع إليه، لكنَّه وَجَدَ نفسه يدخل في صراعٍ لا هَوَادَة فيه، صراع مع البشرِ، مع البردِ، مع الجوعِ، مع التَّشردِ، وعندما يتعب يجلس في زاويةٍ ما بجوارِ بيت، ويغلبه الَّنعاس فَيَستسلم للرقاد، رابضٌ ينطوي كَكَلْبٍ ضَال" فظلت هذه الذكريات تلح عليه طوال فترة السرد, إلى أن اشتدت أزمته النفسية أثناء اجتياح المخيم الفلسطيني وقراره بحرق المخيم بمن فيه حتى الأطفال, فذكريات الطفولة ومواقفها صنعت منه شخصا دمويا وانتقاميا يفتك بكل من يقف بوجهه, يقول الكاتب "بدأ الضباب ينقشع وتظهر ملامح وجه لرجلٍ مألوف: كان القائد غابي ينظر إليه باستغراب:" والأطفال؟" - ماذا ؟.. الأطفال ؟ أرادَ أن يصرخ" أحبهم ..أحبهم " شَعَرَ بأنَّ قلبه يقترب من السلام الأبدي، لكنَّه وَجَدَ نفسه يُذعِن لفحيح يصدر منه، ويدفعه ليتخبَّط في شبكةٍ من الجنونِ مصنوعة من نيرانِ الجحيم تَحرِق قلبه: - لنمنعهم من أن يكونوا إرهابيين مستقبلاً .. لنمنعهم من أن يكونوا بلا قلب ويعيشوا حياتهم بلا روح ..لنمنَحهم الرحمة مبكراً.. احرقوهم جميعاً.. أما عن شخصية (يوسف) فمنذ بداية السرد وهي تحاول البحث عن شيء يثبت أنها حية, لقد نشأ فقيرا لا يستطيع سوى تأمين قوت يومه, فلا استقرار مادي أو عاطفي أو اجتماعي أو نفسي أو وطني حتى, فهو وُلد مهجّرا من أرضه قرية (سمسم) الأصلية التي كان يسمع عنها فقط في حكايات الأجداد والآباء, فظلت عقدة النفي والاستلاب والبحث عن حياة كريمة ذات عدل وسيادة إلى نهاية الرواية, فتمثل الصراع لديه عبر ثنائية: الحاضر والغائب, القدر والإرادة, الجريمة والأمان, الظلم والعدل, الحرية والأسر, الموت والحياة, الثورة والسلام, الصحوة والإخماد, وفي حديثه مع مختار المخيم، يسأله المختار : "يوسف، هل سألت نفسك يوما" هل القدر يلعب دورًا في حياتنا، أم الإرادة ؟" بعثت هذه العبارة في نفسه كل الأسئلة المحيرة " لماذا البؤس؟ لماذا القتل؟ لماذا الاحتلال والتشريد والإذلال؟ لماذا أريد ولا أريد؟ هل قيام إنسان بذبح إنسان آخر بسهولة ذبح فرخة، قدر أم إرادة؟ - الواقع أنك سترى في أقفاص حديقة الحيوان ما كان الجميع سيؤول إليه لو لم يقرروا الاحتكام للإرادة، لقد تمردنا على المصير الذى فرضه المحتل، وقالَ هذا قدركم فعيشوا معه، لا، لا يا بنى .. نحن نعيش قدر نرسمه بأيدينا.. هكذا نقود ولا نتجرجر.." وبذلك تكون قد تشكل لدى شخصية (يوسف) علامة فارقة بين عالمه الواقعي وعالمه الذهني عبر تقنية التذكر والاستدعاء وتيار الوعي, فظلت تلك العلاقة محكومة بنفسيته القائمة على الواقع وتغيراته. وبما أن الأسرى الفلسطينيين قضية شعب وأمة، وظف الكاتب التجربة الاعتقالية داخل سجون الاحتلال الصهيوني, جسدها عبر شخصية البطل (يوسف) وبعض الأسرى أصحاب المؤبدات والاعتقالات الإدارية والعزل الانفرادي, فقد صور الكاتب حياة الأسير بكل تفاصيلها الفاعلة والمفعولة. فعرض لمشاهد التعذيب والتنكيل النفسي والجسدي والاعتقال الإداري والحبس الانفرادي, وتلفيق لائحات وملفات التهم, ووصف ملامح السجان المادية بصورة ساخرة تعبر عن وحشيتها وقذارة أفعالها, يقول الكاتب "استمرَّ الكابتن مايك بلهجةٍ باردة: - سأتركك للكابتن بيرت وأخشى إنَّه قد يجرى لك عمليات بدون تخدير. طبعاً سيستخدم قوات النحشون وهي بلا رحمة، وسيتركونك تختار أداة تعذيبك ... تقطيعك بالمشارط، أو شبحك أو وضعك في الدولاب، وربما يربطون قضيبك ويسقوك كمية هائلة من الماء. يا خبيبي لديهم لهذا العمل جلاَّدون متخصّصون فعلا" ولم ينسَ الكاتب الشخصية الفلسطينية النسوية تلك التي أعطاها سمات وملامح أنثوية راقية ميزها بتصرفاتها وملابسها, وطرح نماذج متعددة منها: المرأة العاملة (الممرضة شيماء) و(المسعفة وفاء) وكلاهما استشهدتا أثناء تأدية واجبهما الوطني خلال عملهما، والمرأة الصلبة والمربية لأبنائها على حب الوطن ومؤيدة زوجها في نضاله ومقاومته كـ(أم نضال). وفي النهاية نستطيع القول أن الكاتب المصري (سعيد رمضان علي) أبدع في سرد أحداث روايته التي تعج بمجريات ومواقف وقضايا الواقع الفلسطيني المحتل بأسلوب حواري فكري واقعي وحكيم ينم عن سعة إدراكه ووعيه وكثرة معلوماته ودقة تصوراته, فمن فلسطين الآمنة إلى المحتلة، إلى مشاهد الحب البريئة، إلى الأسرى بالمعتقلات إلى غزة وبحرها وأهلها، إلى الصحافة المطاردة منعا من تغطية الأحداث الإجرامية على الحدود, إنها رواية أتت في وقتها المناسب لتعيد للقراءة إعادة تشكيل الوعي حول القضية الفلسطينية, وإثبات مسارها الصحيح عبر بوصلة لا تعرف سوى التحدي والصمود والإرادة, وتنمية القيم والمفاهيم والمبادئ وتعزيز حب الوطن والانتماء إليه في إطار سليم يأبى كافة أشكال المصانعة مع المحتل أو تحريف القضايا نحو التعثر أو الاندثار.

---------------

المصادر والمراجع:

أولًا- المصادر • علي، سعيد رمضان: رواية كشجرة زيتون، مكتبة سمير منصور للطباعة والنشر والتوزيع، غزة، فلسطين، ٢٠٢١م

ثانيًا- المراجع: • أحمد، هديل عبد الرازق: تعدد الأصوات في الرواية العراقية، دراسة نقدية في مستويات وجهة النظر، دار غيداء للنشر والتوزيع، الأردن، ٢٠١٦م • أيوب، محمد: الشخصية في الرواية الفلسطينية المعاصرة في الضفة الغربية وقطاع غزة (١٩٦٩-١٩٩٣)م

البوابة 24