البوابة 24

البوابة 24

"رواية المكان"

محمد نصار
محمد نصار

بقلم: محمد نصار

من الواضح تماما أن صافي صافي في روايته زرعين
الأخيرة "زرعين" أعطى المكان حيزا لا حدود له، أو كما يقال في النقد الأدبي، البطولة المطلقة، فهي رواية المكان بلا منازع، حيث حضوره وامتداده على مساحة مائة وستين صفحة من القطع المتوسط بكافة تفاصيله وحيثياته، فمن خلال رحلة كشفية ضمت مجموعة من الأفراد، كان جلهم من كبار السن، منهم من جاء زائرا للمرة الأولى منذ سنين خلت ومنهم من شده الحنين لرؤية موطن أبيه وأجداده وآخرون أرادوا تعقب التاريخ عبر تلك المسالك، التي تفضي إلى قرية زرعين المهجرة بالقرب من بيسان، إضافة إلى الراوي الذي جاء لتحقيق رجاء صديقته "حنان" وأخذ صورة  لبيت أبيها وأجدادها في زرعين المحرومة من رؤيتها منذ أمد بعيد.
كانوا أربعة، انفصلوا عن باقي المجموعة واختاروا أن يسلكوا مسارا يمتد لأكثر من عشرين كيلو متر، الحاج ابراهيم، قائد الفريق، جمال الإداري في واحدة من مدارس وزارة المعارف، أبو نهاد، إضافة إلى الراوي.
مسار قاس وشاق، لاقوا فيه الكثير من الصعاب، التي وصلت في واحدة منها إلى طلب النجدة من شرطة الاحتلال، طلب انقسم فيه الفريق على ذاته، بين رافض للاستعانة بشرطة الاحتلال وبين من رأى أن للضرورة أحكام وهي في اعتقادي إشارة ذكية لواقع سياسي يرفضه البعض جملة وتفصيلا ويراه آخرون مقبولا بحكم الواقع المتردي والتوازنات الإقليمية والدولية .
قي هذا المسار الصعب والشائك، المحفوف بالكثير من المغامرة والمخاطر، رسم لنا صافي صافي  تفاصيل التفاصيل المتعلقة بالمكان، ليس فقط من حيث جغرافيته وأهميته وتاريخه، أو دوره في معارك سالفة وإنما ما حوى من حياة، كالأشجار والأعشاب والأزهار وحتى الوحوش والطيور والأفاعي، بلغة العارف بأدق التفاصيل عنها، حياتها.. طباعها وأنواعها، كخبير مختص في هذا المجال وهو ما أضفى على الرواية بعدا معرفيا هاما، خصوصا أن الرواية أصبحت في عصرنا الحالي واحدة من أهم الأدوات المعرفية، ناهيك عن البعد السياسي، الذي يرمي إليه الكاتب من وراء ذلك، فمن خبر كل هذه التفاصيل، هو ابن هذه الأرض.. من طينها وملحها، أما الدخلاء فلم يحتملوا حتى لسع البرغش، لحظة سماعهم لدرس إرشادي، من الدليل الذي يخصهم، عن المكان الذي نزلوا فيه بقربهم، ففروا هاربين نحو الحافلات، تاركين وراءهم المكان والأساطير المنسوجة عنه في خيالهم، دون أدنى التفات إليه، ضف إلى ذلك، توظيف الكاتب للفلكلور الفلسطيني، الذي جاء موفقا ومتسقا مع السياق العام للرواية، حيث الدلعونة وزريف الطول والدبكة...الخ، في الكثير من المواقف، التي كان  يشعر خلالها الفريق بالبهجة والسرور واندماجهم مع سحر الطبيعة من حولهم وهو في نفس الوقت توظيف هادف، كون الفلكلور الشعبي جزء هام من ثقافتنا وتراثنا الوطني، بل هو أحد أهم الركائز في ترسيخ الهوية الوطنية، المستهدفة أساسا بشتى الوسائل والسبل، باعتبارها عنوانا بارزا للمكان محل الصراع
قد يلمس القارئ لهذه الرواية، تأثر الكاتب الواضح واهتمامه الكبير بأدب الرحلات، لكن لا يمكن بحال وضع هذا المنجز تحت هذا العنوان وانما يمكننا القول بأن الكاتب استفاد من خبراته في هذا الباب وسعة اطلاعه ووظف ذلك كله، ضمن عمله الروائي بشكل مميز.
في الختام يمكنني القول، أن صافي صافي، قدم في هذا العمل، لوحة فنية غاية في الجمال والروعة، تنبض بالحس والحياة، لدرجة أنني كنت أشاهد الأحداث لا أقرأها، بفعل سحر المكان وسطوته وأبرز جوانب مهمة غابت عن روايتنا في زحمة الاشتباك مع العدو، حين ركز على القرى المهجرة والمدمرة والطبيعة الساحرة بكل تفاصيلها.
هذه اطلالة سريعة على عمل مميز، يشكل إضافة نوعية إلى مكتبتنا الفلسطينية والعربية على حد سواء ويستحق الكثير من البحث والاهتمام، سواء في هذا الجانب الذي اشرت إليه سريعا "المكان"، أو  في جوانبه الفنية الأخرى.

البوابة 24